عن وحدة وتفاعل وتناسب البنية الفوقية والتحتية وإفلاس العقل المهيمن (1)

عن وحدة وتفاعل وتناسب البنية الفوقية والتحتية وإفلاس العقل المهيمن (1)

في هذه المادة نحاول التشديد على التوتر وعلاقة التفاعل الذي يزداد وضوحاً بين البنيتين الفوقية والتحتية للمجتمع على المستوى العالمي (وحدة النظام العالمي)، الذي يجد في احتمالية التشظي الاجتماعي تجسيده الساطع. ومن هنا التأكيد على الحاجة إلى قاعدة لحركة نقيضة تعمل على تحقيق الكامن الموضوعي في البنية الاجتماعية الذي تحاول علاقات البنية القديمة خنق تبلوره وظهوره. هذه الحركة النقيضة الشاملة تُبنى على وحدة العلاقة العضوية بين البنيتين التحتية والفوقية. وكل ذلك هو تجاوز للتيار الاقتصادوي الطاغي في فضاء البحث في الأزمة اليوم، وهو أيضاً دليل على ارتفاع وزن «أممية» المشروع على حساب «قومية» التوازنات. وهذا التمييز سيظل ضرورياً ليس فقط لتبيان مستقبل تطور الحركة على المستوى العالمي، بل لاتخاذ الموقف الصحيح من تموضع القوى الحالي كما هي في حركتها.

تعدد الأقطاب أم عالم ما بعد الرأسمالية؟

في النقاش حول طبيعة الانتقال العالمي اليوم يمكن تمييز التيارات الرئيسية التي تصارعت وطبعت حركة التغيير الاجتماعي في مرحلة الرأسمالية كالفوضوية والاقتصادوية- الإصلاحية والثورية (الماركسية) تفعل فعلها، إما لصالح الفكرة التي تقول بعالم متعدد الأقطاب، وتلك القائلة بأن مرحلة التعدد هي فقط مرحلة مؤقتة في سيرورة الانتقال وتجاوز الرأسمالية. وفي صالح المقولة الأولى يقوم المنطق الاقتصادوي. أما لصالح المقولة الثانية فيقوم المنطق الثوري حول التغيير الشامل لطبيعة النظام الاقتصادي نفسه وليس إعادة توزيع حصص على ذات القاعدة.
ولكن هذا النقاش بين المقولتين لم يتعدّ عمره السنين المعدودة على أصابع اليد الواحدة، بعد أن صارت حقيقة أن نظام الهيمنة العالمي للإمبريالية يتراجع ويفقد هيمنته، أي بعد أن صارت فكرة «هل العالم يتغير أم لا» محسومة لصالح التغيّر. ومن الضروري تمييز مصدر المادة الذي يبنى عليها هذا النقاش، ونقصد تحديداً «التوافق» بشبه إجماع على أن العالم يتجه إلى عالم متعدد الأقطاب (ويقف عند هذا الحد من القول)، والتي يجب الوقوف الحذر عندها لأنها تحمل صبغة «إصلاحية» لجوهر التغيير الجذري عند تحويلها إلى مقولة مطلقة، وهو ما تعمل عليه اليوم دوائر الإمبريالية. فالقبول بعالم متعدد الأقطاب يبقي على الرأسمالية كطبيعة للإنتاج والعلاقات والحياة بشكل عام. أما القول بعالم ما بعد الرأسمالية يقول بتحول شامل في نمط الحياة، والقطع مع الإنتاج البضاعي والملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، وكسر حالة الاغتراب التي رسختها عقود الليبرالية باتجاه متعاظم وصل حد التفتت بين المكونات الاجتماعية كلها.

انتقال مراكز الثقل

أن ينصبغ الخطاب العام بهكذا ملامح فهذا لا يعكس جديداً، بل يؤكد أن الإفلاس لدى الأيديولوجيا المهيمنة يجعلها تستعير فكر عدوها لكي توظفه بعد تحويره لصالحها. هذا ما كان أنجلز قد شدد عليها دائماً حول كيفية «التحريف» الذي يطال الماركسية. وإذا كان سابقاً يتم تبني أفكار «العدو» على صعيد ما، فهي اليوم تحصل على صعيد شامل يصبغ الحركة العالمية ككل على أساس ترابطها العميق وحركتها المتوافقة زمانياً ومكانياً. وفي هذا المسار نجد أن الفكر المهيمن، وحين انفجار الحركة الشعبية بشكل أساس، أول ما استعاره من تراث فكر التغيير بمختلف تياراته (الفوضوية، الإصلاحية، والثورية-الماركسية) هو مقولات التيار الفوضوي التي جرى تعميمها لدى الفئات الشعبية المحتجة ضمن «حركات الربيع» في مختلف البلدان.
وهذه الاستعارة للفوضوية التي تم تحميلها للحركة الشعبية وهو ما قرر مصيرها في أغلب المجتمعات (بشكل عام ولا نقول لكل الحركة بكل قواها)، على حساب الموقف الإصلاحي الذي عادة ما كانت تتبناه القوى المسيطرة تاريخياً، يعود سببه بكل بساطة إلى ذات السبب الذي يجعل القوى التي تحاول تثبيت سيطرتها تستعير فكر عدوها، ألا وهو ضيق هوامش حركتها الموضوعية وإفلاسها التاريخي، فالإصلاحية تحتاج هوامش نمو وثبات ضمن البنية نفسها، فمثلاً هل يستطيع المصنع المفلس أن يقدم إصلاحات لصالح حركة نقابية مطلبية ضمنه!
وهذا الانتقال إلى مراكز ثقل التيارات التغييرية لكي تصير مشكّلاً للخطاب المهيمن نفسه يعكس التطور في مراحل الصراع نفسها. وعلى سبيل النكتة السوداء التي تظهر حجم هذا الانتقال، راج في الفترة الماضية فيديو للـ«صحافي اللبناني» المتنقل بين وسيلة إعلامية وأخرى كرأس حربة لموقف الفتنة والفوضى في المنطقة والكيان الصهيوني حكماً، يظهر انتقاله خلال سنتين فقط من موقع المتهكم على الصين «والتوجه شرقاً» (في 2020) ورفضه مقارنتها بأمريكا منبع العلوم والإبداع (وتشكل لبنان حول جامعتين أمريكيتين أساساً! فكيف له أن يترك أمريكا) التي لن يستطع أحد استبدالها قريباً وفشل مشروع التنمية الصيني، إلى موقع القول (في 2022) بموقف تعدد الأقطاب وتصاعد دور الصين وانتهاء دور أمريكا كـ«حليف» لدول المنطقة، فيقول إننا «اليوم أمام عالم جديد لا تعادي فيه دول المنطقة الصين ولن تشتري عداوات كرمى لعيون أمريكا». قد يبدو الاقتباس من هكذا نموذج مستفزاً وغريباً، ولكنه دليل على أن أكثر مستويات الانحطاط الإعلامي والخطاب السابق قامت بتموضع جديد. وقد يقول البعض إن هذا الموقف الإصلاحي تحمله الصين وروسيا أيضاً. نعم، هذا صحيح جزئياً، وشكلياً فقط.

عن الفرق النوعي بين الخطاب المهيمن وبين من يقول به من دول

إذا كانت الصين وروسيا بشكل أساس هما من رفعتا شعار عالم متعدد الأقطاب (الإصلاحي شكلاً) فهي كدول اليوم تمثل نهجاً تغييرياً بصيغة دولة يعكس تطور القوى الاقتصادية وشكل الإنتاج في العقود الماضية في كلتا الدولتين كإنتاج بضاعي (أليست هذه هي هوية الصين الحديثة كـ«مصنع للعالم»؟). فانطلاقاً من أن الصراع السياسي شديد التعقيد حيث ازداد وزن حضور الخط التقدمي ضمن الدولة (التي تنتمي تحديداً إلى العالم الجديد، والتي شهدت سابقاً انتقالات ثورية على صعيد المجتمع بالضرورة) فإن الدولة التي هي اليوم في طليعة «العالم الجديد» تتحدد طبيعتها بازدياد وزن مشاركتها لصالح ليس كبح التطور في القوى المنتجة، بل في فتح طريق المستقبل لهذا التطور، وكون الصين بشكل أساس كاقتصاد يحاول أن يتخذ له موقعه العالمي «إلى جانب» اقتصاد المراكز الإمبريالية (وهو بالضرورة مرحلة من مراحل الصراع مع الإمبريالية)، وبمعزل عن شكل سوقها التصريفي إن كان سوقاً دولية أو داخلية، كل هذا يجعل المنطق «الاقتصادوي- النقابوي» يتطور إلى مستوى لغة الدولة نفسها (روسيا بنسبة أقلّ من الصين). هذا ليس محاولة اختزالية لموقع الدول الصاعدة.
إذاً، إذا اعتبرنا أن صراعاً طبقياً معقداً يحصل- حيث الدولة (الصاعدة) هنا- ولا بدّ أنها جزء منه، ولكن ليس كدولة تكبح تطور القوى المنتجة بشكل مطلق، بل تعمل على فتح طريق تطويرها، وحتى نحسم قضية عدم الوقوع في مسألة الاختزال يمكن القول إن هذا السعي إلى التوازن والتكافؤ الاقتصادي «الرأسمالي» ليس إلا مرحلة مؤقتة نابعاً من المهام المطروحة ولا يمكن له أن يخرج عن قاعدة ما قيل سابقاً بأن الإمبريالية تضع نصب عينيها تدمير هذه الدول «الصاعدة» وتفتيتها، ولهذا فإن الموقف «الإصلاحي» شكلاً، له حدوده وهوامشه التي سرعان ما ستتقلص أكثر فأكثر. ولهذا السبب بالتحديد نرى أن هذه الدول في طرحها ومشروعها (أقلّه ذلك العلني) تشهد توتراً بين مستويين من الخطاب، الأول سياسي يقول بالدفاع الوجودي عن الذات (وفي هويته يأخذ ملمحاً أممياً) وله جوهر جذري في الهجوم على النهج الإمبريالي التدميري للمجتمعات وثقافتها وهويتها وحقها في الوجود وتفتيتها، والثاني، اقتصادي يقول بـ«إصلاح» النظام العالمي لصالح انتزاع «حقوق وحصة» أكثر ضمن هذا النظام (وله ملمح قوميّ). وهذا طبيعي ومفهوم وليس له جوهر رجعي أبداً. هذا التوتر (المؤقت بالضرورة) بين النزعتين الأممية-الثورية والقومية (وإن اختلف وزن إحدى النزعات في دولة عن أخرى، ونقول تبسيطاً نأمل ألا يكون كاريكاتورياً، كازدياد وزن النزعة «السياسية الجذرية» لدى روسيا على حساب النزعة «الحقوقية الاقتصادوية» لدى الصين). وهذا التوتر ليس مطلقاً بل يتطور مع كل تجذير للصراع مع قوى العالم القديم (وتركزها في الغرب الإمبريالي) والأهم مع تناقضات هذا العالم ضمن كل دولة من الدول.
وهذا التجذير يدفع هذه الدول على حد تعبير غرامشي أن «تصبح واحدة منها ميّالة لأن تسيطر ولأن تفرض نفسها في المجال الاجتماعي والاقتصادي، وحدة فكرية وأخلاقية تطرح جميع المسائل موضع الاختلاف والصراع لا على الصعيد النقابي بل <العالمي>» و «تفهم الدولة بالطبع على أنها نظام يعود لهذه الفئة ]المهيمنة[ ومقدر له خلق الشروط الأكثر ملاءمة لامتدادها الأقصى...كقوة محركة للامتداد العالمي، أي لتطور جميع الطاقات <القومية>، وذلك بمعنى أن الفئة الحاكمة...تفهم حياة الدولة على أنها تشكل تواصلاً للتوازنات غير المستقر...ليس إلى المدى الذي تبغيه مصالحها الاقتصادية النقابية» (الأمير الحديث، ص 87). وما هذه المصالح «العالمية» إلا الحفاظ على الحياة على الكوكب في مواجهة الرأسمالية كنظام إنتاج. وهذا بالتحديد هو تقديم المشروع العالمي الشامل، لأن تداخل الصراع العالمي بين الداخلي والخارجي يفرض توسيع دائرة تمثيل «مصالح الفئة الأساسية» إلى خارج حدود «الدولة القومية» ليطال القسم «العالمي» من «الفئة الأساسية» والتي يفعل التناقض الأساس بين علاقات الإنتاج التدميرية للقوى المنتجة فعله فيها. هذا مثلاً مرفوع على مستوى قضية إطفاء الحروب والصراعات العسكرية والتسويات، والقضية الراهنة حول تأمين الغذاء للمجتمعات الأكثر عرضة للمجاعة، وقضايا الصحة العالمية والتعاون بمختلف المجالات وتطوير القوى المنتجة في البلدان المختلفة وحمايتها. ولكن هذا التمثيل للمصالح «الأممية» لم يتجاوز بعد مسألة الدفاع، على حساب قضية الهجوم والتغيير الجذري التي هي في بعدها العالمي أكثر ضرورة وحساسية بسبب الانهيار السريع والشامل في المجتمعات خارج حدود الدول «القومية الصاعدة» (ملامح الخطاب والرموز القومية بارزة جداً في سردية الدبلوماسية الروسية والصينية بشكل خاص). وفي المادة اللاحقة سنحاول تناول العلاقة الجدلية بين ضرورة حل هذا التوتر بين الأممي والقومي (كقضية مركزية في تحديد ثورية الخط، أي التيار الثالث الذي يفترض أن يتعزز على حساب التيارين الفوضوي والإصلاحي) انطلاقاً من انهيار تناسب البنية الفوقية مع البنية التحتية عالمياً وهذا يشمل تلك الدول الصاعدة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1101
آخر تعديل على الخميس, 22 كانون1/ديسمبر 2022 14:50