منصات التهريج ودراما ما قبل الثياب
المسرح من أروع ما أبدعه الإنسان. فهو كالفن المركب والمتماسك والمشاكس. من أصعب الفنون وأكثرها تمرداً وتعقيداً وأعمقها فكراً وأقربها إلى الحقيقة. وأقدرها على التعبير والتغيير. فهو الفن الموحد لجميع الفنون والمبدع لها على خشبته.
امتاز بطابعه الإشكالي منذ نشأته الأولى في سبيل تحقيق ما يهدف إليه فنياً وإنسانياً. بما يقدمه من أحداث أمام الجمهور وقضايا المجتمع الجوهرية. لذلك نجده أكثر الفنون تأثيراً.
في حال انعدام الديمقراطية وسيطرة الأنظمة الباطشة، يتطلب من فنان المسرح أن يتمثل روح المقاتل حتى يستطيع أن يتمسك بحريته إبداعه. بعيداً عن منصات التهريج والمسرح المزيف والمكلف لما يروق الانتهازيين والأنظمة الرجعية الحاكمة التي تدرجه حسب مصالحهم السياسية. وخاصة في مسرحنا العربي الذي لا يتحدث إلا عن معجزات ومنجزات السلطات وانتصاراتها خارج الواقع.
آثر البعض من أشباه الفنانين اختيار الطريق السهلة والمعبدة في مهنة الإنتاج الفني الدعائي. مما دعا الجمهور إلى الابتعاد ومقاطعة تلك العروض التي لم تعد ترتكز على الإبداع وحرية الرأي. وهنا تكمن معاناة الفنان ومعاناة الجمهور. فالتمايز ضروري لإظهار قيمة النوع الذي يعيد الجمهور إلى صالات المسرح. لأن الإبداع لا يعطى بمرسوم ولا يقترن بمؤسسات ومعاهد. وإنما يتشكل ويتطور من التجربة الإنسانية العميقة للفنان الذي يعمل على تجسيد الفجوة معقدة التركيب بين الجمهور والخشبة. كي يستطيع أن يخلق جمهوراً مثقفاً قادراً على المشاركة الفعلية في العرض المسرحي.
فالأعمال التي تقدم سواء في المسرح أو دراما التلفزيون وحتى الإذاعة. هي دون مستوى المشاهد البسيط. وهذا يدل على عجز في الروح الفنية النقدية التي تعمق في نفس المتلقي الرغبات غير الواعية. لأن مشاعر الفنان السلبية تمتص طاقة الجمهور الإيجابية. فالمقولة الغبية «الجمهور عاوز كده» هي مردودة على من أطلقها. فالفنان هو اللي عاوز كده. لأنه هو من يحمل لواء الثقافة. ومن يملك آليات التغيير. والقدرة على اكتشاف الخلل وتقويمه. فالفن ليس انعكاساً للواقع فقط. وإنما قدرة الفنان أيضاً على إبداع الواقع وخلقه من جديد. لا أن يتحول إلى أضحوكة. وتبادل النكات على الخشبة. أو ينحدر بفنه إلى دعاية منتوجات. وإلى دراما تلفزيونية هزيلة من أجل أن ينضم إلى إمبراطورية الدولار.
نعم من حق الفنان أن يحصل على أساسيات الحياة. ولكن بالطريقة المثلى. من جانب آخر نحن لا ننكر أن الفن عموماً والمسرح خاصة هو من ضمن الأزمة الشاملة التي نعيشها. ولكن لو حاولنا أن نكسر جزءاً من إطار هذه الأزمة. لا أن ننتظر كمالك الحزين. حتى تجف مياه الينابيع لنبدو كئيبين حزينين، أو كالجوقة في المسرح اليوناني التي تعلق على الأحداث دونما فعل. فبعض الفنانين الذين أتخمتهم الدفعات السخية التي يتلقونها من شركات الإنتاج التلفزيوني تغير إحساسهم بالواقع. وأصبحوا أشد عداوة للمسرح. ولكنهم نسوا شيئاً مهماً. أن الشبع بداية الجوع. فأخذوا بالمزيف المعتمد وما تروجه الشركات المنتجة الشاذة والجشعة. هم أنفسهم يأكلون الغلة ويسبون الملة.
لذلك نجدهم متأثرين على المسرح، يتباكون ويندبونه بآهاتهم التي يطلقونها كالبراكين. دون أية بادرة ولو بنسبة ضئيلة من الجدية. فالإنسان عندما وعى عريّه ستره بأوراق التوت، فاستروا عورات منطقكم. لأن الارتقاء بالفكر الدرامي والعرض الكاريزمي وخلق الشخصيات الصعبة يحتاج إلى فنان فذ عبقري يحيط بعمله من أوله إلى نهايته. ويكون واعياً لما يقدمه من مشكلات وحلول.
المجتمع بحاجة إلى فنانين محترفين للإبداع بمهارة. لأن حركة الواقع الاجتماعي في عصرنا حركة ديناميكية متنوعة الأشكال تنوعاً مذهلاً. وهذا يتطلب من الفنان فهم قوى التطور الاجتماعي وقانونياته. فالمسرح كان أكثر الفنون التي مهدت للثورتين الكبرَيين الفرنسية والشيوعية من خلال عروضه الموجهة ثورياً للجمهور. لا أن يرجعوا إلى الوراء ويلبسوا الماضي بشكل الحاضر وتمجيد صورته بثقافة تبريرية لا تجلب إلا الكوارث الاجتماعية وبث السموم في نفوس الناس بما يقدمه من سير وملاحم قديمة موحشة بالأخطاء وبيئة مشوهة لعنتريات فارغة لا تمت بصلة إلى واقعها. حيث الزعيم والعكيد والداية والقبضاي. وأصحاب الحل والعقد. وكأنهم خارج الأرض لا سلطة ولا قوانين ولا أنظمة تحاكم وتحاسب.
فأية عودة إلى الماضي تكون؟ هل هي تشويه لما سبق؟ أم من أجل تجهيل الناس وتقزيم عقل المشاهد. وتوثيق سلطة ذلك الماضي المزعوم الذي يفتقد إلى المصداقية. فالاستعمار والأنظمة الديكتاتورية التي خرجت من قبعته السوداء تشجع مثل هذه الأعمال لعدم قدرتها على مواجهة الواقع، والعمل على تغييب الوعي لدى الناس. وكل استعمار هو نسخة لاستعمار سبقه. يجب ألّا نغفل هذه الاستمرارية التاريخية، فهي أشبه بالدمية ذات الشكل الواحد والمتعدد. كلما تنزع شكلاً ظهر لك الشكل نفسه. فالالتفات إلى الوراء وما يعانيه الواقع من إفلاس فكري وحضاري. ألجأ وبغباوة بائسة بعض الباحثين والكتاب، ومنهم كتاب المسرح والتلفزيون إلى الماضي لمآرب أيديولوجية تخدم مصالح الاستعمار ومن تبع له. ليس إلا تأصيلاً لشرعنة وجودهم واستمرارهم.
فضخ الأموال الهائلة في أعمال فاسدة موظفة سياسياً لصالح الجهات الممولة ضد الإنسان. فالماضي لا يمكن أن يقدم لنا عوناً كبيراً كما يتوهمون. وكذلك الحاضر بطبيعته كي نفهمه بشكل دقيق، علينا ربطه بالمستقبل. فكيف لماضٍ أن يكون له قيمة وهو ليس بعداً للمستقبل. وكيف لحاضر أن يكون له قيمة وهو ليس فيه حياة. فمثل هذه الأعمال الهابطة نتيجة تخلف ثقافي.
وحتى المعاصرة منها أكثر تخلفاً وانحدراً وتفككاً للضوابط والقيود في نصوصها الصدئة وإخراجها التالف وإنتاجها البذخ لمواضيع بطلت موضتها ورماها العالم خلف ظهره منذ زمن بعيد. وبهذا النزيف الاقتصادي المستمر. لم يبق لهؤلاء إلا أن يقدموا لنا دراما ما قبل الثياب.
هذا الجهل بقوانين الواقع ورصد حركته الثورية مشروط بالظروف الموضوعية للحاضر وما يعانيه الواقع العربي الراهن من إحباط وفراغ إيديولوجي. جعلهم يخلطون التاريخ بالتراث بالماضي. يهدف هذا الخلط إلى تشتت الوعي وعدم النظر إلى المستقبل. آخذين برأي من أوهمهم من الغرب. بأنكم أنتم الأصل والفصل في كل شيء. من مال وفكر وحضارة. فحافظوا على ما أنتم عليه. وابقوا على جهلكم وتخلفكم واقتلوا أحياءكم بالمادة الميتة. فمجدكم في الزمن الغابر وليس في الزمن الحاضر. وعاشوا وهم الحقيقة ظناً منهم بأن ذلك يحميهم من السقوط المميت. وبأنهم مصدر إلهام الآخرين. فانحشروا قابعين في زواياهم المظلمة كالفئران يقتاتون على كل شيء ويخرجون كل شيء ولا يعملون أي شيء. دون أن ينظروا في عيون من أوهمهم ليروا ما هم عليه من كوميديا سخيفة ومضحكة حتى التقيؤ.
فالأحفاد يجب أن يكونوا جديرين بأجدادهم ويقدموا ما هو أكثر تطوراً وتقدماً يسابقون به الأمم الأخرى بجرأة وعزيمة وثقافة عالية. لا أن يظهروا جهلهم وعدم كفاءتهم. فإن لم يكن لديكم أمجاد حاضرة فلا تتغنوا بأمجاد غابرة بصوت نشاز محموم. وتقدموا للناس علاجاً أسواً من المرض نفسه. فالوضع لم يعد يحتمل. كالثوب الذي حدثني عنه أحد كبار السن. عندما كان يرتديه في الصغر. فمن كثر ما كانت أمه تخيطه وترقعه، تلف واهترأ الثوب تماماً. ولم يعد يحتمل الرقعة.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1093