الخط الفاصل للتاريخ وتغيير المجتمعات
تايه الجمعة تايه الجمعة

الخط الفاصل للتاريخ وتغيير المجتمعات

إذا ما طرحنا السؤال التالي: هل التاريخ علم؟ لن نستطيع صياغة جواب فعلي على هذا السؤال قبل التمييز بين المفهوم المثالي اللا علمي للتاريخ والمفهوم المادي العلمي للتاريخ. وهنا بالضبط الخط الفاصل الذي يجعل من التاريخ علماً.

التاريخ حسب المفهوم المادي للتاريخ علم لأنه يجعل من معرفة قوانين التاريخ مهمته الدائمة. إن الفيلسوفان كارل ماركس وفريدريك إنجلز عندما أوجدا المادية التاريخية في القرن التاسع عشر كانا يعتمدان على المنجزات المعروفة في الفكر الفلسفي الماضي للبشرية. ولم يكن ظهور المادية التاريخية ممكناً بدون النبذ الحاسم للمثالية التي كانت مسيطرة في علم الاجتماع والتاريخ الماضيين، وبدون المحافظة على الأفكار القيّمة في علمي الاجتماع والتاريخ.
ففي المجتمع العبودي القديم، كانت ثمة نظرات أخرى تتعارض مع النظرات المثالية للمؤرخ هيرودوت الذي لقب بأبي التاريخ ولفلاسفة المدرسة الفيثاغورثية الذين كانوا يؤكدون أن التاريخ ومصائر الناس تحدد مباشرة من قبل الآلهة. بينما نفى فلاسفة آخرون مثل ديموقريط وأبيقور ولوكريستي تدخل الآلهة في شؤون الناس. وكانت أفكارهم تقدمية بالنسبة إلى ذلك العصر، حيث أفادت في تجميع المعارف التاريخية. وفي المجتمع القديم وضمن حدود الفهم المثالي للتاريخ، كانت ثمة اتجاهات مختلفة تعكس الصراع الذي كان قائماً بين الديمقراطية والارستقراطية العبوديتين.
وفي عصر الاقطاع سادت النظرة الدينية إلى التاريخ، وكان لذلك جذور طبقية أيضاً. وبالتحديد من السعي إلى تبرير النظام الاقطاعي عبر إيهام الجماهير بأن سيطرة الاقطاعيين والكنيسة تعتمد على مشيئة الله. لذلك أسدل الاقطاعيون نوعاً من القداسة الوهمية على المؤسسات الاقطاعية لتبرير نهب واستغلال الشعب. وأدت سيطرة هؤلاء إلى حدوث انتفاضات الفلاحين التي جرت أيضاً تحت راية الدين مثل انتفاضة توماس ميونتسير في ألمانيا وحركة جون بول في إنكلترا.
للفهم المثالي للتاريخ جذور معرفية وطبقية ولدت الاستنتاج الخاطئ الذي يقول بأن وعي الناس هو الذي يصنع التاريخ.
ففي عصر الإمبريالية، يقف علم الاجتماع البرجوازي لخدمة السياسة الإمبريالية للدول الرأسمالية ويستخدم من أجل النضال ضد الطبقة العاملة. إذ يسعى علماء الاجتماع والمؤرخون البرجوازيون إلى تقوية المجتمع الرأسمالي المتداعي ولإسكات النضال الطبقي. فيحاولون دائماً وعبثاً النيل من المفهوم المادي للتاريخ. لذلك فالفهم المثالي للتاريخ هو الأساس النظري لعلم الاجتماع البرجوازي الرجعي وهو يزول بزوال المجتمع البرجوازي وزوال آخر طبقة استغلالية: طبقة الرأسماليين.
من ناحية أخرى كان ظهور المادية التاريخية انقلاباً ثورياً في النظرات إلى المجتمع، ويكمن سر هذا الانقلاب في الانتقال من الفهم المثالي اللا علمي للتاريخ إلى الفهم المادي العلمي للتاريخ.
وبالرغم من أن الناس هم الذين يصنعون التاريخ، فإن الذي يحدد تطور التاريخ ليست إرادات الناس ورغباتهم، بل الظروف المادية للحياة الاجتماعية والقوانين الموضوعية التي تعمل في قاعدة الحياة المادية ذاتها. وقد فهم ماركس التاريخ لأول مرة كعملية موضوعية مقنونة لتطور وتغيير المجتمعات المختلفة. وربطت المادية التاريخية بين الاعتراف بالقوانين الموضوعية للعملية التاريخية وبين فهم التاريخ كنتيجة لنشاط الناس.
ومن أشكال الصراع ضد الفهم المادي للتاريخ في القرن العشرين والقرن الحالي على يد أصحاب الفهم المثالي: الهيمنة على مناهج التعليم في المدارس والجامعات وكان يجري ذلك بعدة طرق.
منها منع تسرب أفكار الفهم المادي للتاريخ إلى المناهج التعليمية، وإغراق المناهج بشيء من السير التاريخية التي لا يمكن أطلاق كلمة «التاريخ» عليها لأنها تصور التاريخ على أنه نتيجة لإرادات الحكام والملوك والأمراء والأباطرة والسلاطين. وكم كان ذلك مفيداً للطبقات الرأسمالية من أجل تدعيم سيطرتها. ولكن زمن أفول هذا النوع من التاريخ اللا علمي أمره محسوم في المستقبل، لأن أمر أصحابه الرأسماليين صار مهدداً اليوم.
لذلك فالفهم المادي للتاريخ له أيضاً جذوره المعرفية «الفلسفة الماركسية اللينينية» والطبقية «الطبقة العاملة»، ولأصحابه مصلحة في زوال الرأسمالية وبناء الاشتراكية في القرن الواحد والعشرين. فالتاريخ عند المؤرخين البرجوازيين ليس علماً، بينما التاريخ عند مؤرخي الطبقة العاملة علم.
ومن أجل معرفة العملية التاريخية بكل غناها وتعقيدها لا بد من ثلاثة عوامل حسب كيللي وكوفالزون في كتاب المادية التاريخية:
أولاً: معرفة التاريخ المشخص للإنسانية بما فيه تاريخ جميع البلدان والشعوب.
ثانياً: معرفة الظواهر الاجتماعية المشخصة التي تمثل مختلف جوانب الحياة الاجتماعية بخصائصها النوعية وقوانينها (التكنيك، الاقتصاد، اللغة، العلم، الأسرة، الأخلاق، الفن ... إلخ).
ثالثاً: معرفة الصلات العامة بين الجوانب المختلفة للعملية التاريخية والقوانين العامة لتطور وتبدل العصور التاريخية المكتشفة على أساس الحل العلمي للمسألة الأساسية لفلسفة أي تاريخ.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1091