قانون الجاذبية الكوني واللقاء على أبواب العالم الجديد

قانون الجاذبية الكوني واللقاء على أبواب العالم الجديد

إن محاولة الربط بين ميداني الطبيعة والمجتمع لا تعني المماثلة النوعية بينهما حكماً، ولكن القوانين العامة للمادة تفعل فعلها في كليهما حسب خصائص كل منها. وهذا الربط هو في ذات الوقت برهان على مادية العالم وتطوره المستمر، وإعادة اكتشاف القوانين العامة نفسها عبر البحث في صيرورة هذا التطور. وعلى الرغم من سوداوية المشهد، إلا أن هذه المهمة، على قدر ما هي ممتعة، تؤكد أن الغنى الذي تتضمنه الحياة لا ينضب، بل إن تعاظم الألم هو نفسه تعاظم الحركية الداخلية للحياة، أي ما هو كامن فيها من احتمالات في اللحظة التي تظهر فيها أنها تنهار. هكذا تتعمم مقولة أن الأزمة هي فرصة على قدر ما هي خطر. وها هنا قانون وحدة المتناقضات.

الجاذبية في الطبيعة والمجتمع

إن قانون الجاذبية الكوني النيوتوني يتلخص بأن القوة التي تجذب الأجسام لبعضها البعض ترتبط بكتلة كل جسم والمسافة الفاصلة بينهما. فكلما زادت كتلة الجسم زادت قوة جذبه، وكلما قصرت المسافة كلما زادت أيضاً تلك القوة. والعكس صحيح (تضاؤل الكتلة وتطاول المسافة يقلّلان قوة الجذب)، وهذا القانون يفعل فعله بين كل الأجسام الكونية وبينها كلها في ذات الوقت. وها هنا قانون وحدة العالم وماديته. هذا في الطبيعة، أما في المجتمع فإن الكتلة والمسافة تتخذان وجوداً مختلفاً. فوحدة العالم الإجتماعي هي وحدة النظام الذي تتواجد فيه الكيانات والظواهر الإجتماعية. وبالتالي فإن الوجود البشري على الكوكب اليوم، لم يصل فقط حالة وحدته من خلال الإمبريالية، بل وصل أيضاً حالة الترابط الشديد الناتج عن التعقيد الشديد في تقسيم العمل، وزيادة «الاعتمادية» بين الكيانات الإجتماعية. هذه هي الأرضية التي يمكن من خلالها فهم التحول في طول وقصر المسافة ضمن معادلة قوة الجذب. فعقود «العولمة» الأخيرة قصّرت إلى حد كبير المسافة بين الظواهر والكيانات الإجتماعية. أيضاً، إن توسع النظام العالمي عمقاً واتساعاً (تعاظم الاستغلال ضمن الهوامش المتاحة موضوعياً وحدودها) شدّ الفرديَّ والاجتماعي وقرّب المسافة بينهما، وشد الإجتماعي والطبيعي. هذا على صعيد المسافة.
أما على صعيد الكتل، فإن الأزمة التي وصلتها «العولمة» رفعت من وزن مختلف الظواهر ضمن العالم الإجتماعي الواحد (مع التأكيد على وحدة الإجتماعي مع الطبيعة والتأثير المتبادل بينهما). فانهيار اقتصاد دولة ما، أو انفجار أزمة سياسية-اجتماعية فيها، يؤثر على مصير الوجود البشري انطلاقاً من فكرة أن الصراع الممارسي العام اليوم هو بين إشعال العالم والحفاظ على السلام والاستقرار فيه. إذاً، إن كتلة أية ظاهرة اجتماعية تعاظمت، وتعاظم معها أيضاً وزن الوجود الفردي نسبة للإجتماعي، أي تعاظم الأزمة الإنسانية في شكل وجودها العقلي- النفسي وليس فقط الاقتصادي- البيولوجي المباشر.
إن قصر المسافة بين الكتل إلى حد كبير، وتعاظم وزن الكتل نفسها، يعني بالضرورة ارتفاع قوة الجذب في العالم الإجتماعي إلى حد أن جميع الظواهر المادية تنصهر في بؤرة ترتفع حرارتها اطراداً وبسرعة، عملاً بقانون قوة وسرعة التفاعل الكيميائي كلّما اتسع سطح التفاعل والتركيز.

بين العقلي والمادي

إن تعاظم قوة الجذب ضمن الوجود الاجتماعي المادي، وانطلاقاً من واقع أن الأزمة- التي هي أساس قوة الجذب تلك- هي أزمة عميقة وشاملة، أي نهائية في كونها مهددة لمصير البشرية، فهذا يعني ليس فقط أن القضايا كلّها مطروحة على طاولة الحل، بل يعني أن حلّها يجب أن يكون متزامناً وبالتالي فهي تلتقي كلّها عند نقطة التغيير في طبيعة النظام العالمي، ليس فقط على مستوى العلاقة البينية بين الدول والمجتمعات، بل أيضاً في داخل كل دولة. ووجود كل القضايا على بساط الحلّ المتزامن يشد الماضي إلى الحاضر والمستقبل، فكل ما هو إشكالي في التاريخ لم يجد حلّه بسبب هيمنة المجتمع الطبقي في كل الأطوار السابقة، وعند نقطة القطع مع المجتمع الطبقي، فإن كل ما سبق سيطفو على السطح، كقضايا الفلسفة والإنسان والعقل والوجود وغايته والجمال والذات. هذه الخلاصات يقول بها منظّرو العالم المأزوم أنفسهم، وإن كانوا يخرجونها بأشكال تدعم عدمية الموقف الخاص بمعاندتهم التغيير، الذي هو الشكل العقلي من الممارسة التدميرية للنظام المأزوم.
هذا التلاقي العقلي لكل القضايا على أعتاب العالم الجديد، ومن خلال تجريد الزمان والمكان، يقارب بين القضايا الفكرية كلّها، ويصهرها في بناء فكري مترابط وموحد. وهذا يعني أن طابع العقل الخاص بهذه المرحلة يتلّون بالألوان التاريخية للعقل البشري، ويكمن فيه المضمون المادي لهذا العقل. فالوجود المادي وصل وبشكل متزامن إلى ذروة تطوره الموضوعي، والعقل عليه أن يتلاءم مع هذا التطور الموضوعي، ليصل أيضاً إلى ذروته التي كان التاريخ السابق للعقل البشري يقدم منها حلقات مبكّرة فالوجود المادي في اصطدامه مع مصيره المهدد، يقف واعياً أمام نفسه، وهو ما كان يقوم به العقل طوال تاريخ تطوره، وهو ما تتضمنه قضية التحقق الذاتي الهيغلية (بشكلها المثالي).
هذا التلاقي على أعتاب العالم الجديد يحضّر العُدّة والمادة التي سيدخل بها المجتمع البشري إلى الفضاء الجديد، أو بالأحرى هي المادة التي سيولد مجبولاً منها ومتلوّنا بها الإنسان الجديد عبر تخطي التشظي الذي شهده فضاء العقل والعلوم في العقود الماضية، المدفوع بخوف العقل المهيمن من الوحدة والتماسك. في تجاوز التشظي، سيندمج العقل العلمي، والفلسفي، والفني- بكل أشكاله وتحديداً الشعر، والأخلاقي... هذا الاندماج نجد مقدماته المبكرة في منتج الكثيرين من رموز عقل مختلف المراحل وشخصياته، الذي قدموا نموذج الإنسان الكلّي.

مهمة ملّحة

يقول فيغوتسكي أن اللاوعي هو وعيٌ محتمل، كامن مطلوب تحريره من فضاء الضرورة نحو فضاء الحرية، من فضاء المعنى الكامن إلى فضاء الفهم العقلاني. ولهذا فإن المهمة الملحة هي في هندسة الممارسة الأيديولوجية والفكرية بما يتلاءم مع تمكين الأفراد في القبض على الكامن وتحويله إلى وجود محقق على أساس جدول أعمال التغيير نفسه، أي في نقلهم هم أنفسهم إلى فضاء الممارسة. هكذا فقط يولد الإنسان الجديد مع ولادة العالم الجديد.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1090