الانزياح العلمي ومؤشرات العالم الجديد

الانزياح العلمي ومؤشرات العالم الجديد

الأسبوع الماضي كان «حدث» تصدر الصين لأول مرة مؤشر NISTEP بأعلى حصة ضمن أعلى نسبة أوراق علمية معاد ذكرها. وعلى الرغم من أن المؤشرات لحساب المساهمة العلمية للدّول يشوبها الكثير من التبسيط الكمّي وتحصر غالباً بالعلوم الطبيعية، ولكن حتى بالاعتماد على أرقام هذه المؤشرات يمكن تبيان الانزياح العلمي الحاصل علمياً من المركز الغربي لصالح الدول التي تمثل قيادة التحول في النظام العالمي.

التبسيط الكمّي

ليست المؤشرات التي تصنف العلوم ومستوياتها والمنشورات العلمية إلا تعبيراً على الفصل الرسمي الأيديولوجي بين العلوم والسياسة بشكل عام، هذا الفصل المهيمن عالمياً. ويجري غالباً حصرها بالميادين التطبيقية- الهندسية، ويتم حساب المساهمة الخاصة بكل دولة على أساس أرقام المنشورات العلمية الخاصة بكل دولة (المؤسسة العلمية التي يعمل بها الباحثين أصحاب الورقة). وهكذا يجري إذا يجري استبعاد العلم السياسي وصحته ومساهمته العالمية، أو العلوم التي لا يتم نشرها بل تجد قنوات تصريفها داخل جهاز الدولة نفسه، من التخطيط الاقتصادي- السياسي وصولاً إلى تطوير الجيش والتقنيات العسكرية والتي منها الاتصالات والفيزياء والكيمياء والكهرباء والميكانيك. انطلاقاً من هذا المنطق الكمي الأيديولوجي الاختزالي في حساب المساهمة العلمية يمكن الانطلاق لقراءة الأرقام المعلنة.

الانزياح على الرغم من الاختزال

حتى مع الاختزال الحاصل في اعتبار ما هو علمي عالمياً، والمساهمة الخاصة لكل دولة على هذا المستوى، فإن الأرقام في السنوات الأخيرة تظهر ارتفاع المساهمة العلمية للصين وروسيا والهند والبرازيل على حساب تراجع دول المركز الغربي وفي الأيام الماضية تحديداً أُعلِن تصدّر الصين لأول مرة حسب مؤشر المعهد الوطني الياباني لسياسة العلم والتكنولوجيا (NISTEP) (كمؤشر عالمي معتمد) على المستوى «النوعي» (مقارنة بالاعتبار الكمي في المؤشرات الأخرى) بعدد مرات ذكر أوراقها بعد النشر وحصدها 27.2% من أعلى 1% من المنشورات المذكورة في السنوات الأخيرة، مقارنة بـ24.9% للولايات المتحدة. أما الترتيب الكمي في السنوات الأخيرة يظهر أيضاً تصدُّر الصين عالمياً والتي تخطت الولايات المتحدة منذ العام 2018 بحوالي 529 ألف منشور للصين (الأعلى عالمياً) و423 ألف منشور للولايات المتحدة (الثانية عالمياً)، ما يجعل حصة الصين العالمية 20.67% و16.54% للولايات المتحدة. أما حصة دول البريكس فهي حوالي 30% من حصة الأوراق العلمية عالمياً. فإضافة إلى الصين، تحتل الهند المركز الثالث بحوالي 136 ألف منشور (5.31 %)، بينما روسيا تحتل المركز السابع بحوالي 82 ألف منشور (3.19%)، بينما تحتل البرازيل المركز الرابع عشر. وطبعاً، تختلف التصنيفات وترتيب الدول، ولكن على الرغم من الاختلاف الطفيف، فإنه في مختلف التقارير نجد الصين هي الأولى والهند في الدول الخمسة الأولى، وروسيا ضمن الدول العشر الأوائل، والبرازيل ضمن الدول الخمسة عشر الأولى. بينما تأتي ألمانيا (4.08%) واليابان (3.87%) والمملكة المتحدة (3.82%) وإيطاليا (2.79%) ضمن المراتب الثماني الأوائل. مما يجعل الاتحاد الأوروبي مساهماً بربع الإنتاج العالمي تقريباً.

سياق الانزياح

إن اقتطاع التصنيف من السياق التاريخي هو اختزال آخر، وذلك فإن التقارير التي درست التحول في السنوات العشر الأخيرة لها دلالات أكبر. فليست الصين وحدها هي التي تسارع نمو مساهمتها عالمياً في أعلى 1% وأعلى 10% من الأوراق الأكثر ذكراً مقارنة بالدول الخمس التي تتصدر هذه المؤشرات (الولايات المتحدة، السويد، هولندا، سويسرا، الدنمارك). الصين نمت حصتها بشكل صاروخي (وهو ما اعتبرته بعض التقارير غير مسبوق عالمياً) من أعلى الأوراق الأكثر ذكراً بأكثر من 500% في السنوات الخمسة عشر الأخيرة، فهي كانت على مؤشر NISTEP في المرتبة 13 منذ عقدين (اليوم المرتبة الأولى)، واعتبرتها بعض التقارير العالمية العام الماضي بأنها حققت خروقات علمية نوعية وليس فقط كمية. كل دول البريكس طورت حصتها بسرعة، وخصوصاً البرازيل التي جاءت بالمرتبة الخامسة بنسبة النمو، أما الولايات المتحدة شهدت نسبة التوسع الأقل مقارنة بالدنمارك والسويد وهولندا. واللافت كذلك أن روسيا والتي كان قد تراجعت في بداية الألفية حيث وصلت إلى الموقع الخامس عشر عالمياً في أعوام ما بين 2005 و2013، عادت وتقدمت بشكل سريع لتعود إلى مستوى ما بعد الانهيار. بينما دخلت دول كتركيا وإيران إلى «نادي الـ20» للدول الأعلى في المنشورات العلمية. فحسب بعض التقارير فإن إيران التي تقدمت بشكل سريع في الأعوام الخمسة عشر الأخيرة تجاوزت في العام 2018 هولندا والسويد وسويسرا وبولندا، بينما تقدمت تركيا على السويد (السويد احتلت المركز العشرين الأخيرة في بعض اللوائح).

ما بعد الاختزال

على الرغم من الاختزال في كيفية تصنيف الفعل والإنتاج «العلمي»، إلا أن الأرقام (التي لا تشمل بأغلبها السنوات الثلاثة الأخيرة) المهيمنة نفسها تظهر الانزياح الحاصل على المستوى العلمي، والذي هو في جوهره انزياح في مساهمة المجتمعات ضمن الحركة التاريخية الاجتماعية العالمية. ولكن إذا حاولنا تجاوز الاختزال ذلك، أي إذا ما ضممنا المنتج العقلي العلمي الذي يجد طريقه في قنوات أخرى غير المنشورات، ومنها جهاز الدولة وعقلها الاقتصادي- السياسي، ومنها الجيش وتطوير أسلحته التي تستند إلى أحدث الخروقات العلمية، فنجد أن التصنيفات السابق ذكرها ستختلف بشكل كبير. والأمثلة الأبسط هي السلاح فرط الصوتي الروسي والصيني. والأهم هو العقل الاقتصادي-السياسي لهذه الدول، والذي هو عقل علم التاريخ وحركته. فالميدان السياسي كونه يكثف فيه مجمل ميادين الحياة، من الطبيعة إلى الإنسان والاقتصاد والثقافة، فهو يفرض القوة الموضوعية لتقدم العقل العلمي انطلاقاً من أن الممارسة هي التي تفرض مسارات تطور العلم. ولهذا، فإن الموقع التاريخي للمجتمعات الصاعدة من موقع حل الأزمة وليس إنكارها، فهذا دفع، وسيدفع مستقبلاً العقل العلمي الاقتصادي- السياسي في هذه الدول إلى مديات أسرع من المجتمعات التي تعمل على إنكار الأزمة وتتجاهلها، ما يضعها في موقع الجهل بالضرورة، وهذا هو نفسه منبع التخلف في الميادين الأخرى. وإذا أضفنا المستوى الاجتماعي من دور العلم، وتحديداً الطب، فتأتي كوبا في مواقع متقدمة جداً على الرغم من عدم حصدها أعداد منشورات «معتبر».
إن الممارسة التاريخية نفسها، إما بالتلاؤم مع حركة التاريخ أو ضدها، هي التي تحمل القوى الموضوعية لتطوير أو كبح تطور العقل العلمي في المجتمع، حيث إن المنشورات العلمية ليست إلا مؤشراً وحيد الجانب منها. وفي القادم من الصراع ستستعيد الفلسفة موقعها في الفضاء العلمي، والتي تم تغييبها منه لصالح التجريبية حيناً، والعدمية حيناً آخر. عودة الفلسفة هي عودة التشامل التاريخي لحركة المجتمع ووحدة العقل مع الممارسة، واكتمال حلقة الجمال لحركة التحرر الإنساني.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1085