«الديسمبريون» لتولستوي: خيبات ما بعد الثورة
لعل «رواية» ليف (ليون) تولستوي «الديسمبريون»، الوحيدة بين أعمال كاتب روسيا الكبير هذا، التي يتحدث القراء عنها أكثر كثيراً مما يقرأونها. بل لعلها الرواية التي يعتقد المرء انه قرأها ثم يكتشف انه لم يفعل ابداً.
ذلك ان عنوانها حاضر في أدب صاحب «الحرب والسلم» كما في التاريخ الروسي للقرن التاسع عشر، في شكل يجعله مألوفاً الى درجة ان المرء يخيّل إليه ان «الرواية» قرئت منذ زمن. وقد تعمّدنا هنا ان نضع كلمة «رواية» بين معقوفتين لسبب أساس، هو ان من الصعب اعتبار هذا العمل رواية بالمعنى الحرفي للكلمة، حتى وإن كانت لصيغته النهائية بنية روائية، وحتى - ايضاً - وإن كان تولستوي حين بدأ يكتب هذا العمل، عام 1860، أعلن انه ينوي ان يصنع منه رواية. نذكر هنا ان العمل - الذي لم يكتمل ابداً -، صيغ نهائياً من جانب المؤلف عام 1884، أي بعد البداية بربع قرن تقريباً... كما ان تولستوي عاد مرات ومرات بعد البداية، للاشتغال عليه، ولكن في كل مرة بنفس جديد، وبسياق مختلف، حتى كان التوقف النهائي مع خطّه السطور الأخيرة في عام 1884... ولسوف يقال لاحقاً إن السبب الأساس الذي أدى الى هذا كان أن تولستوي الذي أراد في البداية ان يتكلم، بإيجابية وببطولة عن تلك الحركة السياسية التي يشير إليها العنوان، بدّل من رأيه في النهاية، إذ بدا مقتنعاً، بعد اكثر من نصف قرن على اندلاع تلك الحركة، بأنها - عكس ما كان يتصوّر أولاً - إنما كانت حركة موحى بها من الخارج. فما هي اصلاً هذه الحركة؟
هي حركة انقلابية حصلت يوم 14 كانون الأول (ديسمبر) 1825. يومها كان القيصر ألكسندر الأول رحل، وراحت التكهنات والمناورات تدور من حول من سيخلفه على العرش الروسي. وهكذا اجتمع أمراء وأعضاء من كبريات العائلات الروسية وألّفوا في ما بينهم حركة تستهدف اختيار قيصر جديد. غير ان حركتهم، التي كان في أساسها ضباط من العائلات المتنورة، أخفقت. ولا سيما حين تم اختيار الأمير الشاب نيكولا ليحكم باسم نيكولا الأول. وهذا كان شديد القسوة والبطش، بحيث انه أمر على الفور باعتقال كل القائمين بذلك الانقلاب، ليعدم بعضهم وينفي البعض الآخر الى أعماق سيبيريا وغيرها من المناطق الروسية النائية. وقد أثارت بطولة هؤلاء الانقلابيين ومصيرهم البائس تعاطف الشعب وأطلق على حركتهم اسم «الديسمبريين» تيمّناً طبعاً بشهر ديسمبر الذي قاموا فيه بانقلابهم. والحال ان تولستوي الذي ولد بعد إخفاق الحركة بثلاث سنوات رُبّي وترعرع في بيئة تمجد الانقلابيين وتعتبرهم أبطالاً. ومن هنا ما إن بدأ يخوض الكتابة مستلهماً تاريخ بلده الروسي، حتى وضع نصب عينيه ان يكتب رواية كبيرة عن مصير أولئك الثوار. وهكذا، في عام 1860، شرع يكتب آملاً ان يتمكن من إنجاز الرواية بسرعة. ولكنه فيما كان يجمع وثائق التاريخ والمعطيات المختلفة، وجد ان عليه أولاً ان يعود الى زمن سابق على زمن «الديسمبريين» حتى يكون أميناً مع منطق التاريخ، وهكذا توقف عن كتابة تلك الرواية ليشتغل على تجميع وثائق وتواريخ أخرى، لكتابة روايته التي صدرت بعد ذلك بخمس سنوات... وهي بالتحديد روايته الكبرى «الحرب والسلم». كان من المنطقي اذاً، ان يصيغ احداث الحملة النابوليونية على روسيا وموسكو السابقة بسنوات لانقلاب الأمراء والأعيان، قبل ان يؤرخ روائياً لهذا الانقلاب. وكان يأمل أنه، ما إن ينتهي من «الحرب والسلم» حتى يعود الى «الديسمبريين». وهكذا، بالفعل، ما إن أطل العام 1870 وكان انتهى لتوّه من العمل 5 سنوات على «الحرب والسلم»، حتى عاد الى مشروعه القديم، من جديد... لكنه في الحقيقة شعر انه غير متحمس. ثمة شيء في الأحداث أقلقه... ومع هذا نراه هذه المرة يعود الى البدء من جديد، ليكتب صيغتين للأحداث التي كان بدأ يلامس إرهاصاتها في النسخة القديمة. هذه المرة الجديدة استغرقه العمل نحو تسع سنوات، لم يتوقف خلالها عن أمرين: أولهما التردد الدائم دون إكمال «الديسمبريين»، وثانيهما، كتابة أعمال أخرى، بين روائية ومسرحية وفلسفية وما إلى ذلك.
نعرف طبعاً ان تلك السنوات كانت حاسمة في تاريخ الرجل وأفكاره، غير انه لم «يعرف» كيف ينقل ذلك الحسم الى موضوع روايته القديمة - الجديدة، ولا حتى الى نظراتها الى شخصياتها. حيث انه كان، كلما أمعن في التعمّق في دراسة تاريخ ما حدث، يشعر ان عليه ان يعيد النظر كلياً. وفي العام 1884، عاد مع هذا الى الرواية ليخطّ فيها فصولاً توقّف بعدها تماماً... بحيث ظلت «الديسمبريون» غير مكتملة ابداً. والحقيقة ان كل ما فعله تولستوي عند ذاك، كان إدخال بعض التعديلات على نسخة 1860، ثم على الفصلين اللذين اكتملا عام 1878، بحيث تحوّل العمل كله الى ما يشبه مجموعة من الفصول والحكايات صدرت في كتاب واحد وتحديداً على شكل «حكايات عن الديسمبريين». ومع هذا يمكن القول ان قارئ العمل منذ ذلك الحين وحتى اليوم لن يفوته ان يرى نفسه امام عمل له سمة واحدة. إذ، على رغم ذلك التفتت، وعلى رغم تبدّل الأحكام التاريخية ووعي الكاتب بما حدث وبخلفياته السياسية، ظل السياق أقرب الى ان يكون موحداً. فبطل «الرواية» ظل واحداً من الذين شاركوا في الانقلاب، وكذلك ظل من العلامات الأساسية في النص، تلك التضحية التي قدمتها زوجات المعتقلين المنفيين حين أجمعن على ضرورة ان يلحقن بالأزواج الى المنفى. وظل السياق التاريخي هو العفو الذي أصدره، بعد موت القيصر العاتي نيكولا الأول، خليفته ألكسندر الثاني، ولا سيما بعد هزيمة الروس في حرب القرم في 1856، أي بعد ثلاثة عقود من النفي. فالقيصر الجديد كان أقرب الى الانفتاح والأفكار الليبرالية، وهكذا وجد ان لا فائدة في إبقاء المنفيين في المنفى، لذلك عفا عنهم ليعود من بقي منهم الى موسكو. والحقيقة ان الصيغة الأولى لـ «الديسمبريين» تبدأ مع عودة البطل الى موسكو بعد كل تلك السنوات. وهو نفس ما يبدأ به واحد من النصوص التي كتبها تولستوي لاحقاً، حيث لدينا البطل نفسه وقد وصل الى موسكو بعد سفر دام شهراً ونصف الشهر، في رفقة زوجته وولديه اللذين أنجباهما في المنفى. لقد كان هذا الرجل في الماضي سيداً كبيراً من سراة القوم، لكنه إذ عاد على هذا النحو معفياً عنه، لم يجد إلا أبواباً موصدة في وجهه ووجه عائلته، وعيوناً تتفرسه في حذر، خصوصاً ان سنوات النفي والعذاب انتزعت منه ألقه وجعلته أقرب الى ان يُعتبر خرفاً. غير ان الذي يحدث بعد ذلك هو ان الرياح السياسية تدور، ويعود الناس الى التحلق من حول هذا العائد، مرحّبين به زائرين منزله. وهذا ما يشجع، الآن، العائلة على الخروج الى مجتمع بات يعتبرها عائلة بطلة وذات احترام، بعد مقاطعة دامت 3 سنوات. وتكون الإطلالة الأولى خلال حضور قداس في كاتدرائية في الكرملين. أما الزيارة الثانية فتكون الى دارة شقيقة المنفي، وهي سيدة من الأعيان يمتلئ بيتها على الدوام بالزوار الكبار وتحاك في صالونها الدسائس. وعند هذه الزيارة يتوقف النص الجديد - والأخير - الذي كتبه تولستوي. ومن اللافت ان كثراً من الذين كتبوا عن هذا العمل في ذلك الحين تساءلوا عن العلاقة المنطقية بين هذه الأحداث، وبين ما حصل حقاً عام 1825. ثم، إذ ثمة في الرواية، صفحات تتحدث عن صراع على الأرض بين مالك أراضٍ ثري والفلاحين من جيرانه، حدث بين 1815 و1817، فإن كثراً من النقاد الذين رأوا ان نص تولستوي يتعاطف مع المالك الثري، تساءلوا عن علاقة هذا كله بذاك.
وكل هذه التساؤلات تبدو منطقية لمن يقرأ «الديسمبريون»، ليلاحظ انها كلها انما تبدو أقرب الى تجميع افكار وأحداث وحوارات وعلاقات، كان يمكن ان تشكل خلفية ما، لنص يتناول ثلاثة أرباع القرن من التاريخ الروسي. ولربما يصح القول هنا ان ليف تولستوي (1828 - 1910)، حتى وإن كان أصدر هذه المجموعة بالفعل، فإنه قبل ذلك - وربما بعد ذلك ايضاً - دمج الكثير من مواقفها وأحداثها وحتى أجوائها التاريخية العامة، في عدد كبير من رواياته وقصصه، وحتى في كتبه الفكرية، هو الذي واصل الكتابة طوال ما يقرب من ستة عقود من الزمن.
المصدر: الحياة