أربعون خريفاً وغسان كنفاني مازال حياً
أربعون خريفاً، مرت على تطاير أشلاء جسد الشهيد الأديب والمثقف والسياسي غسان كنفاني، في سماء بيروت، وما زال ذلك الرجل الذي خرج من عكا حاملاً معه نكبة 48، يصوغ بما تركه من إرث ثقافي وأدبي حضاري، جدلية العودة عبر حدود الوطن إلى الأرض التي أحب، هاجسه كان ومازال العودة، كلماته التي خطها في رواياته وقصصه عادت قبله، فتلقفتها الجماهير وحفظتها عن ظهر قلب حتى أضحت ترانيم تصدح بها الأفواه، ومازال «أبو الخيزران» بطل روايته رجال من الشمس يردد: «لماذا لم تقرعوا جدران الخزان»؟، لتبتلع مياه بحر عكا كل تلك الصيحات.
غسان كنفاني الذي مازالت روحه تحوم فوق بيوت الصفيح في مخيمات الشتات وداخل الوطن، جعل من الرجال في الشمس في كل مكان على سطح الكوكب، وليس على الحدود الأردنية الفلسطينية، في معسكرات الفدائيين، فمن لم يقرأ غسان لا يعرف تاريخ فلسطين، وقصة شعبها، من لم يتصفح إبداعاته فقد بوصلته، فكان رمزا حيّاً ليقظة الفلسطيني، رمزاً لصحوته ونهوضه، وتحويله من لاجئ في خيمة ينتظر وكالة الغوث، إلى فدائي يتأبط بندقيته، وينتظر دوره في عبور نهر الأردن، فأدب غسان يستحق أن يؤخذ قصة ليطاف بها على كل مدينة وقرية ومدرسة، ليقرأ ويحلل ويدرس كما كان يفعل الشعب الروسي في أدب عملاقهم تشيخوف، فهو من رفع عن الأدب العربي كل عاره وغسل بدقة تقاعس مئات السنين، وهو من خلق معادلة «لا تمت قبل أن تكون ندا»، وكما جاء في قصة قرار موجز أن «الخيانة في حد ذاتها ميتة حقيرة»، ومعه تلاشى الفرق بين خيمة وأخرى يا «أم سعد»، وخيمة ناجي العلي الذي كان يرسم على جدران مخيم عين الحلوة، لم يعد يرسم عن من باع فلسطين، ولم يعد حنظلة يشعرنا بالمرارة كل يوم حتى نغير طعم مرارة الواقع اليومي في حلوقنا.
وماذا عن الرجال والبنادق؟ وهل ما زال عندنا رجال لا يموتون؟ «وهل مازالت الأرض مثل برتقالها حزينة؟ وهل إذا كان لدينا قصص أخرى نحدثه عنها؟»، و»عبد العاطي» في كل هذا يطل برأسه ويلعب في الرؤوس والنفوس، بعد العائد إلى حيفا الذي لم يستطع الوصول إليها للزيارة، رغم أن الوطن كله تحت سيادة «دوف»، ونذالة العالم لا تزال ترعى العنصرية والعقد النفسية والوسواس الصهيوني، ومازال الفلسطيني يحمل نكبته المتواصلة في تراجيديا جماعية متقنة الإنتاج، ولكنها لم تعد تثير تعاطفاً مع أبطالها. فمنذ رحيلك يتكرر المشهد التراجيدي، وينضاف المزيد من الأبطال المأساويين، وقد أصبحنا حالة إعلامية خاصة، لا يتم ذكرنا إلا عندما نموت جماعيا أو بصورة درامية تحتوي على مشاهدة مثيرة وغير متكررة.
غسان كنفاني، يمثل الحكايا الفلسطينية، وأدبه يجسد التغريبة الفلسطينية منذ بدايتها، والوعي المرسوم في كل نتاجه كان بعد صراع داخلي في نفس أبطال غسان كنفاني، وقد سار نتاجه الغني في عدة مساحات، بالتوازي بين وعي المشكلة وفهم الأزمة الفلسطينية إلى العمل على تجاوزها بشكل حقيقي، بعد فهمه الفرق بين الأفعال وردود الأفعال، فكان تنحدر أيديولوجية كاملة من «العاشق»، الأعمى والأطرش» و»برقوق نيسان».
كنا تعلمنا من غسان أن الحياة مزيج غير متجانس من الظلمات والنور، ومن ساحات الخرافة والجهل إلى أرض الواقع والوعي، ومن الاستكانة والضعف إلى القوة والعمل، لكن في «عصرنا» الراهن؛ لم يعد الوعي سلاحاً، ولا الجهل معيباً، ولا «حتى الخيانة ميتة حقيرة» كما ذكر غسان. ومازالت سياسة «الترانسفير» الداخلي والخارجي التي يعاني منها الفلسطيني قائمة، وصناعة الموت هي بضاعة أهل هذه الأرض، وبالذات في المخيمات الفلسطينية في الداخل والشتات، ولم تعد «أم سعد» تزغرد لخيمة الفدائيين.
لو عاد غسان حياً اليوم، لوجد أن القضية الوصية، قد تاهت في غياهب المصالح الضيقة، ولهالته حالة الوهن والهوان العربي، التي تستقوي بالعدو والإمبريالية للقضاء على مقومات الوحدة المصيرية، التي لطالما نظر لها ودفع دمه ثمناً لإيمانه بقضيته.
إن سمعنا غسان اليوم لتذكر أيام التفاعل والتكاتف الفلسطيني الفلسطيني، ورأى أن الحزن على ما وصلت إليه قضيته قليل، وهو الذي اختار أقصر الطرق إلى وطنه، وجعل من روحه كطائر النورس يحلق في سماء فلسطين ومخيمات الشتات، لتحث أهلها على التخلص من واقعهم السياسي المرير، فما قيمة كل أدب أو فن إن لم يصنع منه ديالكتيك عمل ثوري، ينفض غبار الهزيمة عن كاهل الأمة .