نحو سردية جديدة في وجه التهريج والمأساة- المهزلة.. ضمن زمن مضغوط

نحو سردية جديدة في وجه التهريج والمأساة- المهزلة.. ضمن زمن مضغوط

إن التهريج الملاحظ اليوم ليس فقط على مستوى النخب التي تصارع التحول العالمي بل أيضاً على مستوى السلوك الفردي، هو انعكاس للعجز في التعامل مع الواقع السياسي والفردي. ولكن في مقابل هذا التهريج يتضح النقيض، أي السلوك الساخر من موقع القوة، أو بالأحرى هو موقع من لا يعادي التاريخ، والتاريخ أمامه مفتوح بينما هو مغلق أمام المهرّجين. وفي قلب هذه المعادلة يكمن الزمن المضغوط الذي يشكّل جوهر العديد من المظاهر التي نراها والتي هي ولا شك جديدة في التاريخ.

نقض التهريج بالسخرية

إذا كانت قاعدة التهريج (المهزلة) هي التعمية والإنكار بما خص الواقع (المأساة)، فإن النقيض، أي التناول الواعي للواقع، يسمح بتحويل المأساة إلى فرصة، ونقض التهريج العاجز بالسخرية الفاعلة. وهذا القبض على إحداثيات أساسية في الصراع الفكري على قاعدة نفي المأساة- المهزلة تسمح بتوقع وفهم التحول في الحالة العقلية الفردية، وكذلك الحالة العامة للنخب بين عالمين. وهذا القبض على التهريج ونقضه يظهر جلياً مثلاً في الممارسة الدبلوماسية والسياسة الروسية ومستوى وعيها للواقع وحركته. وهذا ما نلمسه في قدرتها العالية على السخرية الناقدة التي تصاعدت في الآونة الأخيرة. فالعلاقة طردية بينهما. فتعاظم التهريج يسير جنباً إلى جنب مع تعاظم السخرية الناقدة. نقد ساخر نلمسه في جهاز الدبلوماسية الروسية تحديداً، وخصوصاً على لسان ماريا زاخاروفا وسيرغي لافروف. على العكس من تهريج بعض الحكومات، وتهريج رؤساء حكومات ووزراء وسفراء الحكومات التي تعيش وضعاً متناقضاً والتي تحاول أن تضع رِجلاً في الفلاحة ورِجلاً في البور، عيناً على العالم الجديد وعيناً على القديم، وتحديداً تلك التي تعاند التاريخ بالتهريج.

حدود التهريج

والتهريج هذا محدود زمنياً ولا يمكن أن يستمر. فهو قادر على الفعل فقط في هوامش الإنتقال. أي طالما أن قاعدته المادية الاقتصادية-الاجتماعية ما زالت تسمح له بالمناورة. وكلما ضاقت هوامش المناورة كلما تعطل السلوك التهريجي. أليست نهاية تهريجات جونسون نفسها هي تعبير عن ذلك. أليس اغتيال رئيس الوزراء الأسبق الياباني شينزو أبي تعبيراً آخر عن انتقال التهريج إلى نقيضه المتطرف الآخر، أي السواد؟!
فالتعفن في المكان، نتيجة انكباح خيار الحرب نتيجة توازن القوى الجديد، يتضمن ظواهر جديدة منها كما قلنا اندماج المأساة والمهزلة في ذات اللحظة التاريخية، والتي يبدو أنها ستنتهي بسرعة أيضاً خلال الشهور القادمة بسبب التسارع العظيم للأحداث. هذا التحول لن يطال النخب فقط، بل سيطال القوى الاجتماعية ككل، أي الأفراد، وما يحملون من تصورات عن العالم، ومع تعطل قاعدة التهريج ستسقط قيم وممارسات التضخم ومعاندة الواقع ونكران الكارثة والتمسك بالتفوق الذاتي التي كانت من صفات الليبرالية الفردية في انفصال الفرد عن مأساة العالم. وتُشكّل المدارس والاتجاهات الفلسفية التطيّرية والمثالية والممارسات السحرية نسخة أخرى وشكل آخر من أشكال التهريج المذكور، فظهورها في غير ظرفها التاريخي المناسب لها، ذلك الظرف الذي ظهرت فيه، يجعلها صورة كاريكاتورية خصوصاً في ظلّ تعاظم المأساة.

بمناسبة الكلام عن الفراغ

سمعنا مؤخراً كلاماً أمريكياً عن الفراغ في المنطقة ربطاً بتلمسهم تراجعهم الأكيد، وسمعنا بالمقابل ردوداً على هذا الكلام تنفي الفراغ في حال غياب الدور الإمبريالي الغربي. وعلى الرغم من صحة أن الفراغ المقصود أمريكياً هو السيطرة الإمبريالية، ولكن في استكمال لنقاشات سابقة يمكن القول إن تراجع الهيمنة الأيديولوجية الليبرالية في سياق تقدم مشروع سياسي جديد، يتطلب ملء فراغ الهيمنة الثقافية الليبرالية التي هي الوجه الفكري والثقافي للإمبريالية في عصرها الحالي. وهذا فراغ مطلوب ملؤه خصوصاً أنّ الحركة الصاعدة وعلى الرغم من تلاقيها الإستراتيجي حول المقولات العامة إلا أن السّردية التي يجب أن تتصدى لتفاصيل السردية الليبرالية لم تتكامل بعد، وفقط نقول «بعد». ولا نقيض للسردية الليبرالية لناحية دور الفرد وعلاقته بالواقع، والفردية الطاغية التي تقف في وجه الآخرين والمجتمع والذات، وبوجه الطبيعة، أي معادلة التغريب، لا نقيض ولا نفي لهذه المعادلة إلا من خلال قاعدة علاقات اقتصادية- اجتماعية اشتراكية الجوهر، وعليها ترتكز سردية بديلة عن الحياة تؤسس لمقولات وأهداف ومعانٍ نقيضة للسردية التي تموت حالياً. وبالسردية نقصد مفهوم غرامشي للثقافة والأيديولوجيا كحالة ممارسة يومية تُتوقع من خلال التفاصيل الحياتية والعلاقة مع ظواهر الواقع المحددة والملموسة (توظيف الوقت، دور الفرد، مفهوم جماليات الأشياء، الممارسة السياسية، استهلاك المنتجات، العلاقة بالآخرين...). وهي ليست مقولات عامة مجردة فقط.
ولهذا فإن غياب هكذا سردية علنية حتى اليوم لن يكون دون خسائر كبيرة في التوازن العقلي المتبقي للغالبية، وهذه مادة تغذية البربرية كما قلنا سابقاً. ومن هنا ضرورة تعظيم دور الاتجاه التاريخي التقدمي، أقله على مستوى تقديم تصور جديد عن العالم (بدأنا نرى بعض معالمه في عودة الكلام عن الاشتراكية في روسيا مثلاً) وفهم هذا التوازن الدقيق للمأساة- المهزلة. فنفي جدل المأساة-المهزلة مرة جديدة هو تدميرهما سوياً، أي تدمير حاملها المادي. وهذا التطور للجدل نفسه نجده ضمن تطور الجدل في نفي مقولة «إما الاشتراكية أو البربرية» (المأساة- المهزلة) نحو مقولة «إما الاشتراكية أو الفناء»، أي فناء المعادلة ككل. ولا نقول إن قواعد هكذا سردية جديدة عن العالم غائبة بالمطلق، بل يوجد ميراث تاريخي سياسي ثوري ما زال حاضراً (في جوهره فكرة الإنسان المناضل من أجل تغيير واقعه) وهناك ميراث شعبي اجتماعي ما زال حاضراً ولو بنسب مختلفة، ولكن والأهم أن الليبرالية دفعت طاقة الفرد لتحقيق الذات. وعلى الرغم من هذا حصل على قاعدة الليبرالية التي أغلق الباب مسبقاً أمام تحقيق الذات، إلا أن هذه الاندفاعة تحمل فيها طاقة وعناصر يمكن نقلها من أرضية الليبرالية إلى أرضية الاشتراكية الجديدة. ما نحاول قوله إن الإنسان الجديد هو ولا شك نفي الإنسان الليبرالي. كما أن السعادة هي بالضرورة نفي لمعادلة المأساة المهزلة. ولكن كل هذا سنشهده في خلال وقت قصير، فزمننا مضغوط.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1080