العقل وحقيقته المؤلمة: انهيار التصور عن العالم

معركة الوعي ليست جديدة، ولكن!

ليست معركة الوعي بجديدة على الفكر الثوري، بدءاً من الشعار وصولاً إلى الدعاية السياسية، ولا تنتهي بالثقافة والفن المرتبط بمعركة التغيير. ولكنها اليوم أضخم بما لا يقارن مع سابقتها لأن مجال الوعي والمعركة عليه توسّع بشكل هائل خلال العقود الماضية. وإذا كانت أدوات معركة الوعي سابقاً تتطلب الإمساك ببعض قوانين الوعي مما يسمح باستمالة هذا الوعي إلى تبني واقعية الظرف السياسي والإجتماعي وفهم العالم، فهي اليوم تتطلّب خوضاً في أعماق بنية الوعي وانقسامه على نفسه، وتحديد مستوياته، وتحديد كيف تفعل هذه البنية فعلها في الصراع القائم ومآلاته. بكلمة نقول، إذا كانت الممارسة السياسية سابقاً تحاول تضمين تحليلها الكثير من المضمون النفسي لوجود الجماهير، ولينين هو أسطع مثال على ذلك، فإن هذه الممارسة اليوم تحتاج لكي تضع وزناً خاصاً لهذا المضمون لسبب قلناه هو توسع وزن الوعي في الواقع الاجتماعي، أي في صلب الصراع الفكري والإيديولوجي والسياسي اليومي، ولسبب أساس آخر هو الخطر التي تحمله أزمة هذا الوزن الروحي والمعنوي على هذا الصراع. فالأزمة الشاملة للرأسمالية هي على المستوى العقلي أزمة انهياره على نفسه كمكافئ لانهيار الاقتصاد وشروط الحياة الاجتماعية. فهذه الأزمة إن كان سابقاً وحالياً هي مصدر الحركة الفاشية والتطرف والعنف بكافة أشكاله، فهي أيضاً ومع اشتداد الأزمة وانفجارها الأخير ضمن سياقات الحدث الأوكراني، نقول إن هذه الأزمة تحمل اليوم مصدر خطر كبير هو انهيار الوعي كشكل آخر للانهيارات التي تحصل على مستوى الدول والبنى الاقتصادية والسياسية.

بنية العقل المنقسمة على نفسها وأزمة المستوى الواعي

إذا ما استعملنا لغة جافة في تناول هذه القضية، يمكننا القول مجدداً كما قلنا حاولنا سابقاً الإشارة إلى أن العقل ينقسم على نفسه بين المستوى الواعي المدرك الذي هو التعبير عن الفعالية العقلية للإنسان، أي المستوى العارف بالواقع وبالذات، وهو الذي يدير ممارسة الإنسان الواعية في العالم، وبين مستوى آخر هو قوانين هذا الوعي التي تبقى في قسم كبير منها متفلّتة من القسم الأول الواعي كون هذا الأخير ولأنه محكوم بمقولات وتصورات الثقافة المهمينة الرأسمالية اليوم، فهو بالضرورة مشوه ومضلل في فهمه لنفسه، أي للقوانين التي تحركه، وأيضاً لأزمته في عجزه عن تحقيق دوافعه وحاجاته. فالمستوى الواعي (ما نسميه بالتفكير الواعي) بما يحمله من فكر مهيمن تغريبي معادٍ للمستوى الثاني ومحرّفٍ له. كان هذا العداء- التناقض بين المستويين محصوراً ضمن وحدة العقل، على الرغم من كل مظاهر الأزمات النفسية-العقلية التي أنتجها خلال العقود الماضية وأقصى أشكالها توسع حالات الفصام العقلي والموت النفسي في أشكال الاكتئاب وغيرها. ولكن هذه الوحدة اليوم مهددة بالانهيار، فالمستوى الواعي اليوم يفقد سيطرته «الإدارية» التي كان يقوم بها بتسيير الممارسة تجاه العالم وتجاه العقل نفسه، أي تجاه فهم الإنسان لنفسه. فالمادة التي يتشكل منها هذا المستوى الإداري هي مادة الوعي المهيمن في صيغته الرأسمالية. وهذه المادة، وتحديداً في الأيام الماضية واجهت أزمة استمرايتها التاريخية في كونها صارت باطلة تاريخياً كون الواقع الذي بنيت عليه، أو بالأخرى بنيت لكي تضلل فهمه، هذا الواقع يواجه هو الآخر أزمة استمراريته التاريخية. فالمدى الجغرافي والزمني الذي يتضمنه المستوى الواعي مات، فالتصور عن العالم الذي يمثله هذا المستوى يتلبس لبوس الجغرافيا والزمن كتعبير ملموس عن العالم المادي. أي العالم في حركته.

التناقض بين الإبداع والخطر

وككل أزمة، فإنها تمثل كارثة كما هي تمثل فرصة في ذات الوقت. ولهذا فإن موت التصور المهيمن عن العالم في إحداثياته الليبرالية يعني فيما يعنيه إفلات الواقع الموضوعي منه، ما فيه إفلات الإنسان من قدرته على التحكم بنفسه. فلنرمِ النظر يسارا ويمينا، ولننظر إلى مستوى وجود الناس اليومي في تفاصيل علاقتها بما يحصل، أي إلى المستوى الذي يسميه غرامشي بالمستوى «الخلوي» الملموس في تصرفات الناس اليومية، فماذا نرى؟ لا يمكن إلا أن نرى عقولاً تهيم في عالم لم يعد مفهوماً لها، فتعطل وجودها. فالضجيج المرتفع لا يمنعنا من تلمس ذلك بل يتحتم ذلك بالضرورة. وهذا يحمل في طياته احتمال خطر الانهيار المذكور، وهذا هو التعبير المباشر عن البربرية وتفريغ الوجود الإنساني من الإنسان، أي التعبير الأقصى عن الوجود التجريبي- الحواسّي الذي نراه في الفكر العلمي. ولكنه يحمل أيضاً مصدر طاقة بناء العالم الجديد. وتحويل هذه الأزمة إلى مصدر طاقة لا يمكن أن يحصل إلا في حال تم تقديم تصور جديد عن العالم قادر على تعويض ذلك المنهار. وهذا التصور ليس اعتباطياً طبعاً، بل يقوم على فهمه لحاجات هذا الوجود الفردي وصراعه ونتيجة هذا الصراع وتقديمه قدرة على فهمها والإجابة عنها. هكذا يمكن اليوم الاستمالة «الثورية» للقوى الاجتماعية لصالح بناء العالم الجديد، وضمها إلى القوى التي تصارع بفعالية. ولكن هذا يحتاج أولاً الإقرار بضرورة هذا المستوى من الصراع بهذا التفصيل. وهنا لا نقول شيئاً جديداً لم يقله الكلاسيكيون الماركسيون، وتحديداً غرامشي في كلامه عن ضرورة أن تحمل قوى الثورة تصورها عن العالم البديل المطروح. ولكن ما نقوم به هو مجرد التأكيد على ضرورة هذه المهمة، وعلى مركزيتها في اللحظة التاريخية العالمية.
وهذا يحتاج ثانياً، إضافة إلى هذا التصور الجديد عن العالم في رموزه ومقولاته وعلاقاته، يحتاج البنية التحتية الإعلامية اللازمة التي ظهر دورها فاقعاً في الأيام الماضية في كونها رأس الحربة بيد النظام الذي يموت. وإذا أردنا تكرار ما قاله وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بأن روسيا «ستخرج من الأزمة ولن يكون لدينا أية أوهام بعد الآن حول إمكانية أن يكون الغرب شريكاً موثوقاً. روسيا ستفعل كل ما يلزم لكي لا تعتمد على الغرب في أي من مجالات الحياة الحساسة»، فماذا يعني هذا القول في سياق ما نطرحه؟ إن التصور عن العالم هو من أساسيات الحياة لكونه يحدد العلاقة مع العالم ومع الذات، ويفتح أفق المستقبل أو هو يضع الإنسان في الماضي الذي يغرق في مستنقع الموت. أما عن ملامح موت التصور عن العالم القديم فذلك يحتاج إلى مواد مستقلة بذاتها تطرح ليس فقط موت نظام العلاقات السياسية الذي ساد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ولاحقاً منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، وليس فقط موت علاقات الهيمنة الاقتصادية، بل هو يشمل نظام الرموز والقيم والمقولات والدوافع والأهداف والعلوم والأخلاقيات والتصورات في كل تفاصيلها. وما هو الإنسان إلا كل هذا؟