عن الحدث الأوكراني: من الميدان إلى الوعي وتوسيع هوامش الزمان الجديد

عن الحدث الأوكراني: من الميدان إلى الوعي وتوسيع هوامش الزمان الجديد

كانت هذه المادة منذ عدة أيام مكرّسة لموضوع حركة الفكر ارتباطاً بحدود الزمان والمكان، أي أبعاد النشاط المادي من حيث الفضاء الجغرافي، ومن حيث آفاق هذا النشاط الزمنية نحو المستقبل، وارتباطه بالماضي، أي بمدى كون هذا النشاط منتمياً إلى حركة التاريخ الضرورية. وكانت ستتم الإشارة إلى الحدود المكانيّة والزمانية التي تحاصر النشاط اليوم متمثلة بالكبح الذي يطال عملية التحول السياسي نحو حل القضايا المطروحة والانتقال إلى فضاء علمي جديد. وبالتالي فهي تحاصر العقل، فتلجم نظرته إلى المستقبل، وتصيبه في مقتل عندما تحرمه من شروط وجوده، أي الهدف والدافعية. ولكن أتى الحدث الأوكراني لكي يصبّ في جوهر هذه المادة ويفتح لها أفقها، أي أفق النشاط وبالتالي أفق الزمان والعقل. ولكن هل فهم الجميع الدرس؟

مساحة النشاط المادي والعقلي وتعطّله

تمت الإشارة مسبقاً إلى أن منظومة النشاط الإنساني محكومة بالحاجات، والأهداف، والأدوات (المادية والفكرية- الثقافية)، وشروط النشاط المادية وعلاقات الواقع (سياسية- اقتصادية- اجتماعية). وعلى أساس هذا النشاط يتحرك العقل. كلما توسع هامش النشاط المادي بالمعنى الممارسي والزمني (أي في كونه يتجه نحو المستقبل محكوماً بالأهداف)، كلّما كان للعقل صاحب هذا النشاط هوامش حركة أوسع. وكلما ضاق هامش الأول كلما ضاق هامش الثاني. وما فعلته الرأسمالية هو أنها لم تضيّق هامش النشاط فقط، بل جففته نهائياً. وبفعلها هذا عطلت العقل وصحّرته. وعملاً بمبدأ التناقض، فإن توسيع هامش النشاط وإحياء العقل لا بدّ من أن يمرّ بحركة تجاوز حدود الرأسمالية نفسها. وهكذا فقط تتسع هوامش النشاط ممارسياً- فيزيائياً، وزمنياً بمعنى أن النشاط يحمل في مضمونه آفاق المستقبل وينتمي إلى حركة التاريخ بما هي صيرورة موضوعية تحتاج إلى الفعل الذاتي لكي تصير ممكناً متحققاً. هكذا تتوسع هوامش العقل ويكتسب بذلك تربة حياته التي صحّرتها شروط الحياة اللاإنسانية في ظل الرأسمالية.

ما كان تحت السطح واضح للبعض

كانت شروط التحول العالمي تحصل تحت سطح الأحداث تارة، وينفذ منها إلى السطح انفجارات هنا وهناك، بعضها واضح للعقل العادي، والبعض الآخر يحتاج إلى التعمق فيه أكثر حتى يظهر محتواه الجديد. ولكن العنصر النوعي الأكثر جذرية في هذا التحول لم يكن سهلاً تلمّسه للغالبية، فكان أكثر «المتفائلين» يقول بـ«تعدد الأقطاب». بينما القلة القليلة قالت بأننا اليوم في مرحلة نوعية من تاريخ البشرية هي الوقوف على تخوم القطع مع البنية الطبقية على المستوى العالمي ككل كمرحلة خاصة من تطور المجتمع البشري. بدا هذا الكلام- وما زال للبعض- ضرباً من الجنون. وهؤلاء المعاندون للتاريخ منهم لأسباب منها مصلحية وهذا أكيد، ومنهم لأسباب العمى النظري والفكري ما بين الجمود والعدمية من أصحاب الموقع «الثوري» من «يسار وشيوعيين» ومن يدور في هذا الفلك.

الحدث الأوكراني

جاء الحدث الأوكراني خلال الأيام الماضية لكي يشكل المسرح الذي طفا عليه ما كان تحت السطح للغالبية. وهذا لأنه وبكل بساطة شكّل نقلة نوعية في قواعد الاشتباك والصراع خلال السنوات الماضية ليس المجال هنا للخوض فيها. ولكن هذه النقلة النوعية بالذات هي عنصر ثبّت نسبياً ولكن على مستوى أعلى من المعارك السابقة، نقول بأنه ثبّت الشروط التاريخية لتجاوز اللجم والكبح التي كانت تعيق النشاط ممارسياً وبالتالي تجفف منابع حياة العقل. وهذا يمكن تلمّسه في التكثيف العالي الذي يحمله هذا الحدث من حيث القضايا التاريخية التي أعادها إلى الواجهة، وربطها مع القضايا المطروحة حالياً. ومنها مثلاً قضية تاريخ التطور الجيوسياسي لأوروبا الحالية، وفي صلبها إرث ودور الاتحاد السوفياتي (وإرثه السياسي، والصراع مع النازية وربطه بالمسار الفاشي الذي تسلكه الإمبريالية في العالم، والعسكري الذي تركه من الترسانة النووية إلى الحدود إلى الوحدة الثقافية والاقتصادية والاجتماعية والتشابك في مصائر شعوب الفضاء السوفياتي)، قضية الاقتصاد العالمي وأدواته ذات الطابع المالي المرتكز على رأس المال العالمي، تبدل أوزان القوى وتوزيعها الجديد، العجز الغربي عن الفعل العسكري المباشر وتحول المعركة إلى حرب عالمية الطابع كما الحربين الأولى والثانية، وإقحام دور الكيان الصهيوني في الواجهة، وظهور تناقضات الدول وحيرتها التاريخية كتركيا مثلاً التي حذرت روسيا في اليوم الأول، ورفضت إغلاق المضيق أمامها في اليوم الثاني... ولهذا فالمسألة الأوكرانية لقربها الجغرافي من جوهر الصراع العالمي لتدمير الكيانات الكبرى النقيضة للغرب، أي روسيا هنا، أبرز كل مضمون الصراع وإحداثياته.
وهذا التكثيف النوعي كان من شأنه أن ينقل فضاء الوعي والعقل إلى مساحة جديدة كانت كامنة في جوهر الأحداث ونقلتها إلى حيز الوعي. ولهذا كان هذا الحدث مفجراً لهستيريا عالمية إعلامية معادية لهذا الكامن الذي برز. هستيريا لا مثيل لها كثفت كل ترسانة التلاعب بالوعي (توازي استخدام الترسانة الاقتصادية الذي يحصل) ولكن في زمن قياسي يقاس بالساعات حشدت فيه كل أدوات الإيديولوجيا المهيمنة التقنية والبشرية والثقافية والقيمية وقذارتها وأضاليلها ووقاحتها. فما شهدناه في الأزمة سورية مثلاً وقبلها حرب الغرب في ليبيا ومن ثم في العراق، وما كان يحصل طوال سنوات من توظيف الأفكار اللاتاريخية وما لدى الفكر السائد من مقولات فلسفية (إنسانوية تحديداً)، برز في الحدث الأوكراني مضغوطاً إلى حد أنّ الكذبة كانت تخدم لساعة لا أكثر (هنا يمكن الإشارة إلى ما ورد سابقاً عن التسارع الزمني وتكثيفه واختزاله المشار إليه في مواد سابقة في قاسيون). وهذا التحشيد وصل حد توظيف أهم رموز هذه النخب كالـ«فيلسوف» الصهيوني الذي شكّل في السنين السابقة قبلة الإيديولوجيا الإمبريالية المأزومة، أي يوفال نواه هراري، الذي مررنا عليه أكثر من مرة في قاسيون. ولأن الحدث نقل الكامن إلى حيز الوجود، فهو أيضاً ضيق هوامش العقل المهيمن ونقله إلى مساحة الموت وصحّر قاعدته، وهنا لم نعد أمام هستيريا، بل ما يشبه الحالة الفصامية الهذيانية لعقلٍ تشظى تماسكه واختل واقعه. كل الأداء الأيديولوجي خلال اليومين الماضيين على مستوى النخب وعلى مستوى الأفراد يُظهر حالة الذهول التي ترافق الفصامي.

«ما يحصل في أوكرانيا هو اتجاه جديد في التاريخ البشري»!

بهذه الكلمات يلخص يوفال هراري موقفه مما يحصل، ولكن من موقع المعادي للتحول، والذي يعتبره أنه عودة لعصر «الحرب» بعد أن كانت «البشرية قد أضعفت من حضور الحرب في المجتمع»! حسناً، يكذب هراري عندما يعتبر أن تاريخ الحرب في العالم انخفض مؤخراً بسبب ميل «إنساني» ما، كون الحرب عادت بقوة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي تحديداً الذي كان هو اللاجم الأساس للحرب في العالم منذ 1945 (وهذا يقول به هراري بأن هذا العام كان بداية عصر سلام نسبي دون إشارة إلى دور قوى الاشتراكية). وتكمن حيلة هراري الفكري هنا أنه يعتبر أن هذه «الحرب الروسية» هي عودة إلى «منطق الغابة» ويجب أن «تعني كل إنسان على الأرض» في إشارة إلى أن البشرية تصارع قدرتها على أن تتغيّر (ممارسة الحرب). وكما يقال، كاد المريب أن يقول خذوني، لأن خوف هراري مردود عليه، لأن هذه الحرب بالتحديد تشير إلى التغيّر النوعي في دور السلاح الروسي هنا في كونه كابحاً للحرب الإمبريالية التي عادت وتصاعدت في العقود الماضية دون أن يقول هراري لماذا، لا بل هو يحمّل «روسيا (وبيلاروسيا) الأوتوقراطية» مأساة الشعب الأوكراني منذ عصر القياصرة حتى البلاشفة وستالين تحديداً والجيش الأحمر. مع هراري يصل الموقف العالمي المهيمن إلى تجريد عالٍ لأنه أيضاً يكثّف بدوره الإحداثيات الشاملة التي قلنا فيها إن الحدث الأوكراني يتضمنها.
ليس هراري إلا النموذج «الفلسفي» لنماذج أخرى عن نخب سياسية وصحفية (من موقع الفكر المهيمن) تشير إلى المسار التاريخي الجديد الذي يحمله الحدث. يمكن الإشارة هنا إلى مقالة ديفيد أغناطيوس في الواشنطن بوست، وهو المقرب من الدوائر السياسية والاستخباراتية الأمريكية، التي يعلن فيها عن تاريخية الحدث وولادة مسار عالمي جديد. ما يشير إلى أنّ ما كان في الاقتصاد والمستوى الملموس انتقل إلى فضاء الفكر والوعي، وقريبا في تنظيم البنية السياسية العالمية. ولكن هنا للأسف تبرز تعاسة العقل الذي يدّعي اليسارية، والذي ينتمي بدوره إلى إحداثيات العالم القديم والذي ينهل من مصادر العقل المهيمن نفسه. هراري قدّر اللحظة التاريخية بينما بؤساء اليسار فلا. وهنا لا بد من الإشارة مجدداً إلى أن معركة الوعي هي معركة مستَحَقّة على قوى العالم الجديد لا يمكن أن تُتْرَك مواقعها للعدو في المرحلة القادمة، فشعوب دول كروسيا والصين تعاني من هذه اللوثة المهيمنة ولا شك. هذه هي المهمة القادمة بالضرورة من أجل استكمال نقله الكامن بكل معانيه إلى حيز الوجود، فما زالت طاقته كبيرة وكبيرة جداً. أي استكمال توسيع هوامش الزمن الجديد واقتحام التاريخ.

رابط مقال هراري:
https://www.economist.com/by-invitation/2022/02/09/yuval-noah-harari-argues-that-whats-at-stake-in-ukraine-is-the-direction-of-human-history

رابط مقال ديفيد اغناطيوس:
https://www.washingtonpost.com/opinions/2022/02/24/putin-invasion-ukraine-shape-new-world-order/?fbclid=IwAR14enN7DY9zzf1eDKr3VIuyb02naUy05B5zUNcXKZgKQYUzsEYzVpxGY3g

معلومات إضافية

العدد رقم:
1059