«السيمفونية الثالثة» لبيتهوفن: تعويضاً عن البطل الضائع
خلال الأعوام الثلاثة الأولى من القرن التاسع عشر، كان ثمة عاملان يتصارعان في داخل الموسيقي الألماني لودفيغ فون بيتهوفن: من ناحـــية، كان العــــامل الأول إحساسه بالألم والمذلة من جراء الصمم الذي بدأ يستـــشري لديه، أما العامل الثاني فكان من الناحية الأخرى أمله الكـــبير في ذلك البطل الجديد الذي أطل على أوروبا، من فرنسا، حاملاً وعـــــود الحرية والتقدم إلى شعوب العالم: نابوليون بونابرت.
في ذلك الحين كان نابليون مجرد قائد ثوري عرف كيف يطلع من أحضان الشعب وراح يبشر بفجر جديد للإنسانية. وكان من الطبيعي لفنان طليعي مرهف الحس من طينة بيتهوفن أن يتفاعل مع تلك البشرى. لذلك، فيما ذهب الموسيقي الذي كان لا يزال شاباً إلى حدّ ما، يعتزل الناس، بعض الشيء، في مدينة هيليغنشتاد، في صيف عام 1802 حيث عاش في بيت ريفي مطل على نهر الدانوب، بدأ يعمل الفكر بكتابة سيمفونيته الثالثة، وكان من الواضح بالنسبة إليه في المراحل الأولى من تفكيره أن يعبر في ذلك العمل الذي بات بالتدريج، يعوّل عليه كثيراً، عن النزعة الإنسانية الجديدة الطالعة من الوعود التي ارتسمت في أفق التحرك الذي يقوم به «بطل أوروبا الجديد» وأن يهدي العمل إليه معتبراً إياه، مثله الأعلى في الديموقراطية والحرية.
ولكن بعد أن خط بيتهوفن أولى نوطات الحركة الأولى والثانية فوجئ بما لم يكن ليتوقعه، ولا بالطبع أن يستسيغه: فوجئ بنابوليون بونابرت يتوج إمبراطوراً. وعلى الفور شعر الموسيقي بأن مثله الأعلى يهوي إلى الحضيض، فصرخ: «ماذا... أو تراه ليس أكثر من إنسان عادي يحمل في عمق أعماقه طموحات تسلطية عادية؟».
وهكذا من دون أن يفكر كثيراً محى بيتهوفن سطور الإهداء وبدّل من مسار عمله الإبداعي. لكنه في المقابل لم يسع أبداً إلى التقليل من شأنه، بل راح يكتبه بكل أعصابه وغضبه، وكأنه به يحاول أن يعوّض، موسيقياً، على خيبــــته السياسية. كأنه أراد أن يجعل من السيمفونية نفسها مثلاً أعلى بدلاً من ذلك البـــطل الذي هوى. ونحن نعرف طبعاً أن لودفيغ فون بيـــتهوفن لم يكن المبدع الوحيد الذي اعتصرته الخــيبة بنابوليون بــــعدما كان هذا قد حُمّل الكثير من الآمال... ولــــعل في إمكاننا هنا أن نذكر الفيلسوف هيغل وخيبته هو الآخر إزاء تصرفات القائد الفرنسي حتى تكتمل الصورة لدينا.
أما بالنسبة الى بيتهوفن ففي وسعنا أن نذكر على الفور أن السيمفونية الثالثة جاءت انطلاقاً من هنا، من تلك الخيبة ومحاولة المبدع الردّ عليها، شهاباً غريباً في عالم الموسيقى، أشبه، كما يقول الناقد بيار هايجل بـ «عمل لا يمكننا أن ننظر إليه مواجهة، لأنه يبهر العينين كالشمس المشعة. إنه عمل لا يأتي إلينا، بل يتوجب علينا، نحن، أن نقوم بالخطوات الأولى حتى نقترب منه، تاركين أنفسنا نسبح في نوره المشع».
تنتمي «السيمفونية الثالثة» إلى ما يمكننا أن نسميه «الموسيقى النقية» التي، بعد أن زال وهم مؤلفها في مثله الأعلى السياسي، ما عادت في حاجة إلى أي موضوع من خارج لغتها الفنية الصافية.
ومن هنا ما يقوله الباحثون من أن بيتهوفن تعمّد فيها أن يواصل تعامله مع العمل السيمفوني كتعامله مع «السوناتا»، وهو أسلوب في التأليف الموسيقي المنتمي إلى موسيقاه السيمفونية بكل وضوح، سوف يرافقه حتى السيمفونية الخامسة التي سيؤلفها بعد أربعة أعوام. وهذا الأسلوب، الذي كان بيتهوفن شرع فيه منذ السيمفونية الثانية، يقوم على استخدام مجموعتين تعبيريتين، يتشكل كل منهما من أفكار - أو بالأحرى من مواضيع موسيقية متنوعة -، في شكل يجعل البعد الدرامي يتفجر في داخل كل موضوع على حدة وهكذا منذ «التيمة الأولى» بنوطاتها الثلاث المبتدئة حركة «اليغرو كون بريو»، حيث يفرض بيتهوفن على مستمعه نوعاً من طاقة خلاقة تؤكد المنحى العام للعمل، مشرعة الباب أمام بعد درامي يتصاعد، ولا يتوقف إلا عندما يأتي التعبير المفاجئ عن «انتصار الإرادة البطولية». وهكذا ينتقل العمل إلى الحركة الثانية (آندانتي كون مولتو) تمهيداً للحركتين الثالثة والرابعة (والاثنتان حركتا آليغرو). عبر هذه الحركات الأربع، - التي تتألف منها هذه السيمفونية التي كثيراً ما نجد من الموسيقيين والنقاد من يميل إلى وضعها في الصف الأول من أعمال بيتهوفن، وبالكاد يحاول البعض الآخر أن يضع السيمفونية التاسعة في مصافها-، لم يحقق بيتهوفن عملاً أخاذاً وحسب، لكنه أيضاً أحدث تلك القطيعة التي كان يتمناها منذ زمن بعيد، مع تقاليد موتسارت وهايدن، وصولاً إلى تثوير مفاجئ لفن السيمفونية. ويتجلى هذا خاصة في الحركة الثانية التي هي عبارة عن «مسيرة جنائزية»، شاء منها بيتهوفن أن تبدو متعارضة بعض الشيء مع «مسيرة جنائزية» أخرى كان دمجها في عمله السابق «سوناتا للبيانو» (العمل رقم 26).
ففي المسيرة الجديدة يبدو الشكل هنا شديد التعقيد، والغاية منه الوصول إلى تصوير تعبيري للبطل، وحين نتحدث هنا عن «البطل» في ما يخص هذه السيمفونية الثالثة لبيتهوفن، لن يكون في وسعنا أن نغيّب عن بالنا أن القائد الفرنسي كان هو المعنيّ بها أولاً، ومن هنا لا بد أن يتخذ المارش الجنائزي الذي توحي به الحركة الثانية - إن لم يكن في مجملها، ففي جزء أساسي منها على الأقل- سمة النعي للبطل الذي لم يعد موجوداً. علماً بأن الميت هنا ليس نابوليون بونابرت بل أناه/ الآخر القديم الذي قتله التتويج الإمبراطوري.
مهما يكن من الأمر، وعلى الصعيد الفني الجمالي الذي لا بد من العودة إليه هنا، فيما وراء الدلالات السياسية، لا بد من القول إن كل هذا استخدمه بيتهوفن لرغبة منه في تحرير نفسه والموســـــيقى بالتــــالي، من أسر تقاليد كانت تكبله، كما أشرنا، أي تقـــــاليد كانت لا تزال تجمع بين موسيقاه وموسيقى معاصريه الكبيرين، موتـــسارت وهايدن حتى وإن كان من المعروف أن «تيمات» الحركة التالية أتت أشبه بما كان كتبه بيتهوفين نفسه قبل ذلك بفترة لباليه «بروميثيوس».
ولكن هنا يمكننا في طبيعة الحال أن نتساءل عن حق: هل ثمة صدفة في أن يستخدم بيتهوفن في عمله البطولي الجديد تيمات كان استخدمها للتعبير عن مسيرة سارق النار؟ ترى أفلا يمكننا أن نستند إلى هذا لكي نقول كم أن بيتهوفن عبّر هنا عن ظمأه إلى الحرية؟ وقدّم عملاً يقيناً أن في وسعنا أن نخرج منه، بعد سماعه، ونحن نشعر بأننا «كبشر، أقوى، وأكثر استعداداً لرؤية الحياة بعيون جديدة» كما يقول الناقد هايجل؟ وبشكل أكثر تحديداً: أكثر استعداداً ليس فقط للتحرر من كل ظلم وقمع للحرية، بل للتحرر مما يمكن اعتباره أكثر شراسة وتعقيداً: أي من أوهامنا التي لا تتوقف عن إعماء بصيرتنا، كما من ضروب إيماننا الحمقاء بأبطال سرعان ما ينكشفون أوغاداً؟
عندما كتب بيتهوفن «السيمفونية الثالثة» كان لا يزال في الثانية والثلاثين من عمره، هو المولود في عام 1770 في بون بألمانيا. ومن المعروف أن بيتهوفن هو سليل عائلة موسيقية تعود جذورها إلى جنوب هولندا. وكان في الحادية عشر من عمره حين أصبح موسيقياً محترفاً، وبعد ذلك تلقى دراسته الموسيقية التالية على يدي هايدن وموتسارت في فيينا (التي سيموت فيها في عام 1827). ومن المعروف أيضاً أن بيتهوفن تفرغ للموسيقى طوال حياته العملية، التي أمضى معظم سنواتها في العاصمة النمسوية. وهو كتب تسع سيمفونيات، تعتبر الثالثة أشهرها، كما كتب الكثير من السوناتات والكونشيرتات والقداديس وأعمال الباليه، وأوبرا واحدة هي فيديليو، كتبها في الوقت نفسه، تقريباً، الذي كتب فيه «السيمفونية الثالثة» وذلك في وقت كان صممه قد استفحل لديه، وبدأ ينفّره من الناس ويجعله شديد التشاؤم ما جعله يفرغ كل طاقاته في أعمال موسيقية خالدة لا تزال حية وفاعلة حتى يومنا.
المصدر: الحياة