التراث بوصفه «بعبعاً»..
ثمة طريقتان لمحاولة تفريغ أي شيء من قيمته الحقيقية، سواءً أكان أساساً أو إبداعاً، أو منجزاً، أو جذراً... الطريقة الأولى، وهي طريقة باتت تقليدية جداً و«تراثية» جداً جداً، تتم بمحاربة هذا الأساس أو هذا المنجز بشكل علني والسعي لنسفه كلياً بجميع الوسائل المتاحة من استئصال أو بتر أو تطويق أو تهميش أو تسخيف أو عزل.. مع تجنيد ما يمكن تجنيده من عناصر وحجج وترويج لخلق مناخ مؤات ومعطيات متكاملة لإنجاز العملية المطلوبة بالصورة الفضلى..
أما الطريقة الثانية، فهي طريقة عصرية جداً، ومراوغة جداً جداً، ومجدية جداً جداً جداً، كونها تُجنّب أصحابها المتوارين في الظل الكثير من السجال والمحاججة والخوض في حرب سافرة مع آخرين محتملين، إضافة إلى أنها لا تحتاج إلى حشد أو دعاية أو مناصرين كثر، وتتم بادعاء حماية هذا الأساس أو الجذر أو الإبداع... والمناداة الدائمة بذلك حتى المغالاة، وفي الوقت نفسه، العمل خفية على تقويضه بهدوء وسلاسة.. وما على مَنٍ يريد اللجوء إلى الطريقة الثانية إلا إيجاد بعض المتخشبين أو المحنّطين أو قصيري النظر أو ضعيفي البصيرة وجعلهم حماة وقيّمين على ما يراد دكّه، وهؤلاء بمحدودية إمكاناتهم المعرفية وقصور وعيهم، سينجزون عملية التدمير وهم يحسبون أنهم يفعلون العكس..
إن ما يحدث عربياً ومحلياً اليوم، وهو الذي ما انفك يحدث منذ عقود عدة، خير دليل على ما سبق، فتشويه مفهوم الاشتراكية عند الناس تم بأيدي من حسبوا أنفسهم يروّجون لها ويرفعون لواءها ويطبّقون قوانينها، وتشويه فكرة القومية العربية تم بأيدي من خالوا أنفسهم دعاتها وحماتها من المفكرين والباحثين والسياسيين، وتقويض حلم الوحدة تم بأيدي من حاول فرضها... وهكذا دواليك..
ولعل اللغة العربية قد أصابها من ذلك الكثير.. فمعظم من ظن نفسه مدافعاً عنها وموالياً لها وحامياً لضادها طوال العقود الأخيرة، ساهم في عزلها وخنقها وتخلّفها، وكرّس صعود اللغات الأخرى بين الناطقين بها على حسابها، وجعلها تبدو ضعيفة وقاصرة ومحدودة ومنفّرة، وحارب كل من بإمكانه حقاً تطويرها وتوسيعها من متذوقيها وعشّاقها، واتهمهم بأنهم خونة لها وخارجون عليها.. وهو يحسب أنه بذلك يفعل المطلوب لصونها من الاندثار والتشوّه.. بينما هو حقيقة ونتيجة يفعل العكس..
الآن، يضيّق بعض القائمين على مجمع اللغة العربية في سورية على نشر كتب التراث الشعبي، باعتبار مثير للاشمئزاز والضحك والألم في آن، وهو أن هذا التراث مليء بالعامية التي تسيء للفصحى، فإذا كانت الفصحى غير قادرة على التعاطي العلمي والبحثي مع هذا المنجز الشعبي العميق الذي يعكس الواقع الاجتماعي العربي في وقت كانت الفصحى فيه شبه مفصولة عن الناطقين بها لأسباب موضوعية تاريخية، فمن بإمكانه القيام بذلك؟ وهل يحسب المجمعيون أن الفصحى ضعيفة إلى الحد الذي يمكن فيه أن يُخشى عليها من العامية؟ وكيف تمكن دراسة الموروث الحضاري للناس دون الاستشهاد بأمثالهم ومواويلهم وأهازيجهم وحكاياتهم...؟ ومن سيستفيد من تراثنا الشعبي ويحفظه إن لم نقم نحن، من خلال لغتنا الفصيحة، بهذه المهمة الجليلة؟
إن اللغة العربية لا تحتاج إلى من يظن نفسه أنه يحميها.. بل تحتاج ألاّ تُعزل في مجمع أو قصر أو بلاط أو مؤسسة بعيداً عن الناطقين بها والمنتمين وجدانياً وحضارياً لها.. وإلا سيكون مصيرها كمصير من خنق ابنه وهو يحتضنه لدرجة عصره وسحقه.. وكفى وصاية على معطى حضاري لا يقبل الأوصياء، بل يقبل من يجعله واسطته في التعبير والتواصل والإبداع والبحث.. وليبحث الأوصياء عن عمل أقل ضرراً..