فيلسوف قرطبة /1/
محمد عادل الملا محمد عادل الملا

فيلسوف قرطبة /1/

ابن رشد آخر فيلسوف عربي بحث في المادة وأصلها، وفي النفس، وهل هي أزلية وغيرها من المسائل التي تبحث عنها الفلسفة، وقد جرته أفكاره ونزعته العقلية إلى تعرضه لاضطهاد فقهاء زمانه الرجعيين ومحاكمته ثم نفيه من قرطبة.

محمد عادل الملا
انتشرت فلسفة ابن رشد وتأسست المدرسية الرشدية التي ظلت تدرس في أوروبا حتى نهاية القرن السابع عشر وعلى أساساها نشأت الفلسفة الحديثة المبنية على البرهان والاختبار، ويعد المستشرقان أرنست رينان ومونك أول من حاول في أوروبا خلال العصور الحديثة إحياء فلسفة ابن رشد والكتابة عنها وبحثها بحثاً علمياً.
فأرنست رينان كتب في أواسط القرن التاسع عشر كتابه «ابن رشد ورشدية» وهو أرقى كتاب عن فلسفة ابن رشد. أما في العالم العربي، فكان فرح أنطون اللبناني الطرابلسي المهاجر إلى مصر، أول من كتب عن ابن رشد. فقد نشر في الجزء الثاني من مجلة الجامعة التي كان يصدرها بمصر عام 1903 مقالاً عن ابن رشد وفلسفته وتطرق فيه إلى الكلام عن الفلسفة عند المسلمين وكان لمقاله الأثر البعيد. فقد نقده الشيخ محمد عبده، المصلح الاجتماعي المصري ومفتي الديار المصرية آنذاك، واضطر فرح انطون إلى الرد عليه في كتاب ضخم يعد أيضاً أوفى كتاب عن فلسفة ابن رشد في العربية.
ومن الذين كتبوا فيما بعد عن «ابن رشد»، الاستاذ ماجد فخري الذي كتب مادة ابن رشد في دائرة البستاني في طبعتها الجديدة، كما وضع كتاباً متألقاً عنه يعد أيضاً من أهم المراجع عن هذا الفيلسوف، وهناك أيضاً السيد عاطف العراقي الذي وضع كتاباً عن النزعة العقلية عند ابن رشد.
وبمناسبة الاحتفال بمرور ثمانية قرون على وفاة ابن رشد أطلقت عدة جهات أكاديمية عربية ودولية اسم ابن رشد على عام 1998. وفي الوقت ذاته بادر المفكر المغربي محمد عابد الجابري إلى العمل في مشروع قوامه نشر مؤلفات ابن رشد الأصلية.
وفي باكورة هذا المشروع أصدر الدكتور محمد عابد الجابري كتاباً عنوانه «ابن رشد سيرة وفكر» دراسة ونصوص، قال فيه: إن استعادة ابن رشد الفقيه وابن رشد الفيلسوف وابن رشد العالم أصبح ضرورة تمليها علينا ليس المكانة المرموقة التي يتبوّؤها هذا الرجل في تاريخ الفكر الإنساني فحسب والتي غابت في تاريخ فكرنا العربي، بل تمليها علينا حاجتنا إلى ابن رشد ذاته وإلى الروح العلمية النقدية الاجتهادية واتساع أفقه المعرفي، وانفتاحه على الحقيقة أينما تبدت له، وربطه بين العلم والفضيلة على مستوى الفكر ومستوى السلوك على حد سواء.
ويضيف الجابري: إن الكارثة التي لا ينبغي للأمة العربية أن تغفرها لنفسها هي أن مؤلفات هذا الفيلسوف ظلت مجهولة لديها كل هذا الزمان بينما تلقفتها أوروبا لتكون ركيزة من ركائز عصور نهضتها وتنويرها.
ويرى الجابري أن مؤلفات ابن رشد هي المدخل الضروري لكل تجديد في الثقافة العربية والإسلامية من داخلها، ومن هذه المؤلفات: «فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من اتصال». «الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة». «تهافت التهافت» الذي رد فيه على كتاب الغزالي تهافت الفلاسفة، وهاجم فيه الفلاسفة وأعلن الحرب عليهم. «الكليات في الطب». «الضروري في السياسة».
ويضيف الجابري: أما ابن رشد الفيلسوف، شارح أرسطو الذي يتجاوز مجرد الشرح إلى الاجتهاد الفلسفي الأصيل تماماً، مثلما تجاوز ابن رشد الفقيه الطريقة السائدة في طرح مسائل العقيدة والعلم والفلسفة.
ابن رشد هذا سيبقى نموذجاً للمفكر العربي المطلوب اليوم وغداً، المثقف الذي يجمع بين استيعاب التراث الكريم وتمثل الفكر المعاصر والتشبع بالروح النقدية وبالفضيلة العلمية والخلقية، ويرى الجابري أن ترشيد الإسلام السياسي وتخفيف التطرف الديني إلى الحد الأقصى لا يمكن أن يتم بدون تعميم الروح الرشدية، أي نزعته العقلية في النظر إلى الأمور في جميع الأوساط الثقافية والمؤسسات التعليمية.
قال الفلاسفة العرب أن كل من يريد الولوج إلى عالم الفلسفة لا بد له بقراءة المعلم الفيلسوف اليوناني أرسطو، باعتبار أن فلسفته هي أساس الفلسفة في العالم لذلك أطلقوا عليه اسم المعلم الأول. وكان الخليفة العباسي المأمون هو الذي طلب من ملك الروم أن يرسل إليه كتب أرسطو، ثم كلف النقلة وممن يحسنون اللغة اليونانية بترجمتها إلى العربية وبهذا الشكل وصلت فلسفة أرسطو إلى العرب. كما أطلق على أبي نصر الفارابي اسم المعلم الثاني باعتبار أنه أول من شرح فلسفة أرسطو اليوناني وعرف العالم العربي به.
وبعدها تنوقلت فلسفة أرسطو وأعجب بها العرب كل الإعجاب ثم وصلت مع الزمن إلى الأندلس، حيث كان الأندلسيون يهتمون بكل ما يصدر في المشرق من أدب وشعر وعلم وفلسفة وغيرها، وبالاستناد إلى ذلك ازدهرت العلوم في الأندلس، وكثرت الشروح على هذه الفلسفة حتى جاء ابن رشد فوضع الشروح المستفيضة عليها وأضاف عليها ما أضافه، وبابن رشد اختتمت الفلسفة العربية وانتقلت إلى الغرب وإلى مختلف المدارس في أوروبا.
ولد الوليد محمد بن رشد في مدينة قرطبة الأندلسية سنة 520 هجرية الموافقة 1126 ميلادية. وكان ينتمي إلى أسرة تعد من أكبر الأسر العربية في الأندلس، أسسها جده أبو الوليد محمد بن رشد الذي تولى قضاء قرطبة.
درس فيلسوفنا علوم زمانه من أصول وفقه وكلام كما حفظ القرآن، ثم أقبل بنشاط متزايد على درس الطب والرياضيات والفلسفة، فأخذ الطب عن أبي جعفر هارون وابن باجة، أعظم فلاسفة الأندلس في ذلك الحين.
وعقد صداقات مع علماء قرطبة، خصوصاً بني طفيل وبني زهر، وكان في الأندلس يومئذ حزبان، حزب يناصر الفلسفة والأفكار الحرة، وحزب يعادي الفلسفة ويتهم معتنقيها بالخروج عن الدين!
وكان الخليفة الأموي الأندلسي الحكم محباً للعلم راغباً في نشره، فأرسل إلى سائر الأقطار العربية رسله تجمع الكتب من قديمة وجديدة، فيبيعونها له بأعلى الأثمان ويرسلونها إليه. لكن هذا العصر الذهبي لم يدم طويلاً، فبعد وفاة الحكم خلفه ابنه هشام وكان فتى ضعيف الرأي، فاستولى على الحكم الحاجب المنصور وظل يحكم على مدى خمسين عاماً، ولكي يرضي رجال الدين أخذ بمحاربة الفلسفة واضطهاد الفلاسفة، فأحرقت في ساحات قرطبة كتب الفلسفة والمنطق والفلك إرضاءً لرجال الدين الرجعيين المناهضين للأفكار الحرة.
ثم تولى فيما بعد أمير محب للعلم هو الخليفة عبد المؤمن الذي قرب العلماء والفلاسفة، واجتمع في بلاطه أعظم فلاسفة الأندلس، ابن زهر وابن باجة وابن طفيل صاحب القصة الفلسفية «حي بن يقظان» وأخيراً ابن رشد.
وبالنظر لصداقة ابن رشد وابن طفيل وبالنظر لمنزلة ابن طفيل لدى الخليفة، فقد سعى هذا لتقديم صديقه ابن رشد للخليفة، وقد قص المراكشي في كتابه عن «أخبار المغربي» ما قاله ابن رشد لقصة دخوله لدى الخليفة، وامتحنه في مسألة: ماذا يعتقد الفلاسفة في الكون: أهو قديم أزلي أم محدث، ومنذ ذلك اللقاء صار ابن رشد من أقرب المقربين في بلاط الأمير.
وقام ابن رشد بوضع شروحه على فلسفة أرسطو بناء على رغبة الأمير وقد تناول ابن رشد فلسفة أرسطو بالشرح والتفصيل فوضع ثلاثة شروح. الشرح الأول مختصر، والثاني متوسط والثالث الشرح الكبير وكان قصد ابن رشد من ذلك أن يتدرج الطالب في درس فلسفة أرسطو من المختصر إلى المتوسط إلى الكبير.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1057