توسّع قوة الفكرة بين نقيضين: هيمنتها وضرورتها

توسّع قوة الفكرة بين نقيضين: هيمنتها وضرورتها

سوف لن نخرج في هذه المادة عن السياق السابق، الذي يحاول التشديد على الحاجة إلى مواجهة تفريغ العالم من العقل الذي هو النتيجة الطبيعية للظروف التي أنتجها نظام الحياة الراهن، مدعوماً بخطة واعية لدى الامبريالية للدفع باتجاه البربرية (في ظروف طبيعية واجتماعية تؤسس للانقراض لاحقاً) خوفاً من أي نتيجة أخرى أكثر إنسانية لا تعريف آخر لها إلا إدارة المجتمع جماعياً لثروته وتحديد مصيره. وهنا نحاول أن نبيّن مجدداً دور الفكرة وارتفاع وزنها لعدة شروط تاريخية، مما يرفع قيمتها السياسية في الصراع القائم.

ارتفاع الهيمنة الفكرية

طوال التاريخ حصل تحوّل في شكل السيطرة الطبقية، وكان لكل تشكيلة اقتصادية اجتماعية ملامحها الخاصة لتثبيت القائم. واختصاراً يمكن القول إن السيطرة المباشرة المادية بقوة الحديد والنار كانت هي الغالبة ضمن العبودية والإقطاع، وهو ما تحوّل نسبياً لحظة دخول البشرية في الرأسمالية وتوسّع دور العقل حتى في ممارسة الطبقة المسيطرة الجديدة (البورجوازية الثورية حينها) ولكن لم يتبلور هذا التحوّل، أي توسُّع دور هيمنة الفكرة في السلطة إلا عند اقتحام الاشتراكية مسرح التاريخ وتثبيت نفسها ضمن التوازن القائم في منتصف القرن الماضي بعد انتصار الاتحاد السوفياتي، في الحرب العالمية الثانية. فحتى القرنين الثامن العشر والتاسع عشر كان إحراق العلماء ومحاكمتهم وسجنهم تحت تُهَمٍ مختلفة هو السائد. وقبل هذا التحول يمكن القول إن الفكرة كانت تقمع وتخنق بالقوة المباشرة. ألم يدبّ الرعب في أوساط الحكم الكنسي ومحاكم التفتيش نتيجة نظرية دوران الأرض حول الشمس وتمت محاكمة غاليليو على إثرها؟ ألم يسجن نابوليون العالم الألماني فرانز جوزيف غال بعد لجوئه إلى فرنسا بسبب فكرته حول القدرة على دراسة القدرات العقلية من خلال دراسة الدماغ (بغض النظر عن الخلل في طروحاته المثالية وقتها)؟ وعاد هذا التقليد ليسود بشكل ظاهر بلا مراوغة بشكل مباشر بعد انتهاء الزخم الثوري للعقل التنويري للبورجوازية، وتحديداً منذ بدايات القرن التاسع عشر عند الاشتباكات الواسعة بين البروليتاريا الناشئة والبورجوازية. وتصاعدت حدة الخنق المادي للفكرة مجدداً بقوة الحديد والنار عند كل أزمة، وكان أهمها لحظة إحراق الكتب وقتل الشعراء وملاحقة الكتاب ونفيهم في مرحلة هيمنة النازية وبعدها في مرحلة الانقلابات ضد الأنظمة التقدمية الناشئة في العالم. ألم يكن الحكم بحق غرامشي «يجب منع هذا العقل من التفكير!» الدليل الفاقع على توسع دور العقل مادياً؟
إذاً لم يخلُ تاريخ البشرية من القمع المباشر للفكرة، ولكن منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وتبني الإمبريالية لسياسة الهيمنة الفكرية والثقافية في ظل توازن القوى العالمي وقتها، حصل ارتفاع لوزن الهيمنة الفكرية، فقامت الفئة المسيطرة عالمياً على استخدام الفكرة للهيمنة. فشرعت «العقل» والبحث والعلم والثقافة والفنون، مع توسيع القاعدة المادية التكنولوجية لهذه الهيمنة من التضخم المتعاظم لدور النشر والميديا بمختلف أشكالها ووسائل التواصل العالمية، وعندها نلنا ما يسمى بوسائل التحكم الجماهيري.

موقع الفكرة بين نقيضين

تعايشت طريقة الهيمنة الفكرية للفئة المسيطرة عالمياً مع طريقة الهيمنة المادية بقوة الحديد والنار وجهاز الاستخبارات عبر الملاحقة والاغتيال والتصفية في «ظروف غامضة». ومنذ دخول الرأسمالية في أزمتها المفتوحة فالمساحة التي كانت تحتلها الفكرة والعقل كشفت عن نفسها وعن نتيجتها المنطقية، أي في كونها معادية للعقل والتفكير. فنحن نشهد اليوم دماراً للعقل الفردي والجماعي في ظروف الانقطاع عن الواقع وتفككه، مما يؤسس لتدمير منظومة النشاط المادية التي هي الأساس المادي للتماسك العقلي نفسه، في ظل غياب أي تصور للمستقبل، أي الصورة الذهنية للأهداف القابلة للتحقيق بما يتعلق بالمسائل الإنسانية والفردية المطروحة على جدول الأعمال الحالي. وهو ما أشرنا إليه في المواد السابقة. وهذا ما يجعل الفكرة تحمل طابعاً نقيضاً، فهي من جهة تخضع للاندثار في ظل هيمنتها على مساحة واسعة من الحياة الاجتماعية للبشرية. ما يجعلها تحمل وزناً ودوراً كبيراً في الانحدار العام باتجاه البربرية. ومن جهة أخرى، وبسبب دورها السابق نفسه في يد القوى المسيطرة، يجعل لهذه المساحة دوراً نقيضاً في يد القوى الصاعدة التي يجب ملؤها. فإذا كانت القوى العسكرية للإمبريالية والمساحة المادية للحديد والنار يجري ملؤها من قبل السلاح الصاعد الروسي والصيني، عبر الكبح، وعبر إطفاء التوترات هنا وهناك، فإن المساحة التي تحتلها الهيمنة الفكرية، أو هي بالأحرى المساحة التي تلعب دور سلاح دمار شامل من نوع آخر تجفف منابع الحياة الفكرية والمعنوية للإنسانية، هذه المساحة لا يمكن تركها تتحرك حسب حركة الأزمة.

القاعدة التقنية وبعض ملامح هيمنة الفكرة

إلى جانب هذه المساحة الوظيفية لهيمنة الفكرة ودورها في نظام الحياة الذي نرثه اليوم، هناك قاعدة تقنية كانت داعمة لهذا الدور. مما يعني أن عالمية القاعدة التقنية وسرعتها العظيمة وترابطها الكبير هي المكافئ التقني لطبيعة الدور الذي تلعبه المساحة الفكرية. ويمكن الأخذ ببعض الأمثلة اليومية للدلالة على ذلك. فخبر واحد اليوم، ومن أي مكان في العالم، كفيلٌ وحده بأن ينقل المزاج العالمي للبشرية ككل في ثوان قليلة دون مبالغة في هذه التوصيف. أي إننا اليوم تخطينا مسألة دور السينما والكتاب والفن والتقارير والبحوث والعلم. وهذا دليل آخر على تعاظم مساحة هيمنة الفكرة، والترابط الشديد وتكثّفه. وهذا مكافئ ذهني للتكثيف المادي وترابط الحدث المادي عالمياً. أليس أي حدث في العالم اليوم كفيلاً بأن يجعل مسار الأحداث متحولاّ بشكل بارز؟ هذا ما يحصل في لحظات التلاقي التاريخي لمسارات التطور الموضوعية اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وفكرياً، أي في انصهار المستويات الاجتماعية كلها في بؤرة واحدة على مستوى الانتقال السياسي التاريخي.
وهذا ما ينقلنا إلى المهمة الملحة. فهذه المساحة الذهنية والفكرية لا يمكن أن يتم تجاهل دورها التاريخي الذي لم تكن تحمله في مراحل الانتقال السابقة الحامية في التاريخ كما هي عليها اليوم. وهذا ما لا يمكن للقوى الصاعدة اليوم تجاهله في كونه على جدول الأعمال. وهذا ببساطة يمكن تلمّسه في حياة الأفراد اليومية، إن كان في بؤر الاشتعال، أو في بؤر الاستقرار النسبي لبعض الدول «الهادئة». فالحالة المهيمنة هي عدم اليقين والاضطراب الآني الناتج عن انهيار الفكرة التي كانت مهيمنة في هذه المساحة طوال العقول الماضية. هي حالة آنية دون مبالغة أيضاً، أي كما يقول غرامشي، على المستوى الخلوي من الوجود الاجتماعي. وهذا يعطي القوى الصاعدة طاقة ثورية توازي، إن لم يكن أكثر، المساحة الاقتصادية والعسكرية لوزنها الصاعد. ففي هذه المساحة بالتحديد تكمن قوة المستقبل ومساحاته الرحبة، عند تحول الفكرة المستقبلية إلى قوة مادية في عقل الجماهير، حين تجيب عن أمانيهم وتطلعاتهم الخاصة والعامة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1054