اختلال نظام النشاط وبناؤه في صلب مهام المرحلة

اختلال نظام النشاط وبناؤه في صلب مهام المرحلة

في المادة الحالية سنحاول إجمال ما سبق وعرضه في مواد سابقة على صفحات قاسيون، مع استغلال المادة المصورة (المحاضَرة) التي تم عرضها على صفحة قاسيون للباحث في العلوم التطبيقية والأساسية في جامعة موسكو للعلوم الإنسانية أندريه فوروسوف تحت عنوان «مستقبل البشرية المهدد من مصالح الطغمة المالية»، هذه المحاضَرة التي يمكن أن تشكل مكاناً تلتقي معه المواد المذكورة، وهناك بالتحديد تتشكّل كمهمّة على جدول الأعمال التي يستكمل العرض الغنيّ الذي قام به فوروسوف.

قليل عن المواد السابق ذكرها

في عدة مواد سابقة ومنها بالتحديد «الخاتمة التعيسة: نهاية العقل وتفريغ الإنسان» (عدد 1050)، «لقاء الماضي والمستقبل: أن يكون الإنسان حيّاً» (عدد 1048) «العقلية الرثة تتوسع...على المتقدمين الحذر!» (عدد 1045)، تم التشديد على أن من نتائج نمط الحياة الذي ساد طوال العقود الماضية في ظل حكم الإستهلاك المفرط والميديا وتكنولوجيا الإتصال الواسع هي تسطيح العلاقة مع الواقع بشكل أساس وضرب العقل الحيّ وتفريغ الإنسان من إنسانيته وتوسع للعقلية الرثة التي صارت الملمح العام للفئات الاجتماعية على مختلف تموضعها الطبقي. هذا يؤسس القاعدة المادية للبربرية كخيار قائم على نقيض الإشتراكية على مفترق الطريق في مصير البشرية، ولهذا من الضروري أن يتم تقدم الجبهة الصاعدة في ميدان المعركة الروحية التي لن تكون معزولة عن تقدمها على مستوى الانتقال إلى ملامح المجتمع الجديد الذي وحده يستطيع مواجهة تفريغ المجتمع من العقل والفعالية الفردية الحية. وعودة إلى محاضرة فوروسوف، يمكن أن تلتقي هذه المواد مع فكرة جوهرية يؤسس عليها فوروسوف (وغيره) تصورهم للمرحلة التي تحاول النخب العالمية التحضير لها وهي ما يسمونه بمرحلة ما بعد الرأسمالية، والتي يكون فيها الإنسان شبيها بالزومبي محكوماً بشبكة تحكم معلوماتي ثقافي في مجتمع نوعي جديد يتم الفصل فيها بشكل حاد بين من هم فوق مع شروط حياتهم «الصحية» وبين من هم تحت في واقع بربري صحياً واجتماعياً واقتصادياً وغذائياً...

الضمانة في وجه البربرية

على الرغم من هذا التصور القاتم، يختم فوروسوف محاضرته بالقول إن خيار النخب العالمية هذا ليس قدراً محتوماً طالما لم تستطع الطغمة العالمية المسيطرة من إخراج الصين وروسيا من المعادلة كعنصرين يمنعان ذاك الخيار المظلم للبشرية. وهذا ما ذهبت إليه الكثير من المواد في غير مكان أن روسيا والصين هما الدولتان الوريثتان الأساس لمرحلة الصعود السابقة في القرن الماضي. وتمارسان اليوم دور الضامن والكابح للجنون الإمبريالي، في ظل شروط صراع معقد ومتداخل لا يبرز بشكله الصّافي للعقل السهل الذي يستهوي الغالبية من بني «اليسار» تحديداً. ولكن هذا الدور الكابح كما هو واضح ليس بكاف. فالصمود في وجه الخيار القاتم البربري يحتاج إلى تجذير المواجهة والإنتقال من حدود المنظومة إلى نقيضها على مستوى علاقات الإنتاج بالضرورة التي تعيد ترتيب المجتمع وعناصره بما يكفل العبور في مرحلة الإنتقال الحادة التي نحن فيها.

منظومة النشاط المختلّة

سنركز الكلام هنا على ما سمّاه العلماء النفسانيون السوفيات بمنظومة النشاط، عناصر هذه المنظومة، شروط تدميرها، وكيفية البناء. إن منظومة النشاط التي حاول لاحقاً (ما بعد إنهيار الإتحاد السوفياتي) الكثيرون تقديم نموذج ملموس لها عبر ما سمّاه مثلاً يورغي إنغتسروم بمثلث نظام النشاط، والذي وظفه من ثم آخرون في مجال التعليم والتربية والتكنولوجيا وهندسة بيئة العمل. ويمكن إجمال منظومة النشاط بعناصر أساسية في تفاعل جدلي فيما بينها، وهي الفرد القائم بالنشاط، موضوع النشاط، أدوات النشاط، علاقات النشاط وتقسيم العمل، وبيئة النشاط، وقواعد النشاط. هذه هي العناصر الأساسية لمنظومة النشاط التي ينبني عليها النشاط. وهي استعارة وتحديد لبعض من المقولات الماركسية كأدوات الإنتاج، علاقات الإنتاج، وقوى الإنتاج. وشهد «مثلث النشاط» الكثير من البحوث، ولكن ما يهمنا هنا هو في اختلاله. وفي المرحلة التي نحن فيها، ما يهمنا هو دماره بالكامل. فالأزمة الرأسمالية هي نتاج تناقضات لا يمكن التوفيق بينها. فموضوع النشاط ليس فقط أنه لم يعد فقط مرضياً للقائم بالنشاط (الذي تحركه الحاجات والأهداف)، بل صار الموضوع مفقوداً نتيجة التهتك في الحياة اليومية وشح هوامش «الرشوة الرأسمالية»، وليست الحياة في ظل الإغلاق العام العالمي نتيجة كوفيد19 ونتيجة الحروب والأزمات والهجرات والأزمات الاقتصادية والبيئية إلا دليلاً على فقدان موضوع النشاط الإنساني، الذي هو في جوهره تحقيق الحاجات الإنسانية نفسها (حتى في شكلها المغرّب). إنّ فقدان موضوع النشاط يؤدي بالضرورة إلى اضمحلال وتشتت الهدف الذي يحكم تماسك منظومة النشاط (يمكن هنا مراجعة كتابات أصحاب نظرية النشاط الثقافية المادية التاريخية من السوفيات تحديداً والذين مررنا على ذكرهم سابقاً من فيغوتسكي إلى لوريا وليونتييف). وهذا ما شدد عليه سوفوروف نفسه حول التحكم بالأهداف، ولكن نضيف إلى كلام فوروسوف هو أن الأهداف يتم ضربها (أو هي تتهشم) ولا يجري فقط التحكم بها.

هوامش المواجهة الضرورية

يمكن التوسّع كثيراً في تحليل التحوّل (الدمار) الذي يطال منظومة النشاط الإنساني الفردي على المستوى الخلوي المباشر كما يقول غرامشي في تحليله لحصر المنظومة في نمط الحياة الملموس اليومي في هذه المرحلة من انغلاق أفق المناورة الرأسمالية على مستوى توسعها أو تجددها إلا من خلال تدمير الحياة أكثر. ولكن ما يهمنا هنا هو المهام التي تقرع ناقوس الخطر، والتي لا يبدو إلى حد الآن أنها مطروحة بشكل كاف ومتبلور على العقل الحيّ. ونقصد هنا، في عدم حضور المهام على جدول الأعمال اليومي القريب الأجل، «وأنّ وقت التحول الجذري في الداخل الروسي قد جاء، ولا يمكن لروسيا كبلد أن تحمي نفسها من التدخلات الغربية ومن مخاطر الفوضى الشاملة دون تحوُّلٍ جذري في طريقة توزيع الثروة داخلياً... أي إنّ الانزياح نحو اليسار بالمعنى الاجتماعي بات ضرورةً وطنية بما يخصُّ الأمنَ القومي الروسي» (يمكن مراجعة مادة مهند دليقان: «كازاخستان وتأثيرتها... مقاربة أوليّة»-تقارير وآراء). وهنا تجدر الإشارة بأن توزيع الثروة هو عنصر أساس، ولكن الإنتقال إلى إعادة منظومة النشاط التي أصابها تدمير الأهداف ومن ثم انهيارها على نفسها ما يدمّر العقل الحي للبشرية، يحتاج إلى تقديم أهداف جديدة، تعيد ترتيب النشاط وإنتاجه، وتماسكه، وهذا يتطلب إذاً تقديم الأدوات والبيئة (ومنها تحديداً منظومة إعلامية ودعائية مناسبة ومؤسسات مقاتلة تمثّل رأس هرم ما سماه فوروسوف سلاح التنظيم)، والعلاقات (وإعادة توزيع الثروة حكماً). تقديم الأهداف الجديدة يعني بما يعنيه تقديم نمط حياة جديد، حلم جديد للبشرية، في وجه الفراغ الروحي الذي جرى تعميمه. هذه الأهداف تتضمّن وعداً بأن الإنسان قادر على التحقق من خلال وجوده في صلب بناء المجتمع الجديد. في هذا الدور وحده تكمن سعادة الإنسان في أن يكون معترفاً به في صيرورته ضرورة للآخرين ولنفسه. على المستوى الخلوي هذا هو الخرق الأمني والسياسي والإجتماعي والأيديولوجي الذي يعاني منه القطب الصاعد ويمكن تلمّسه عبر مختلف طرق السّبر اليومية لحياة الناس. وكل تأخير يعني بالضرورة انتقال المعركة إلى الداخل أكثر. وهذا يعني أهوال أكبر على البشرية، في وقوفها على حافة البربرية، وربما الإنقراض. هذه المهمة التي لا يمكن التأخير فيها يوماً واحداً، على الرغم مما قد تحمله من مواجهات حادة في تلك الدولتين، ولكن هناك ثقة اليوم بأنها ممكنة في حضن السلاح فرط الصوتي، وعناصر تماسك داخلية ما زال وزنها اليوم حاضراً، ولكنها ليست بثابتة إلى ما لا نهاية في ظل عالم يتداعى.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1053
آخر تعديل على الأحد, 23 كانون2/يناير 2022 02:22