لقاء الماضي والمستقبل: أن يكون الإنسان حيّاً

لقاء الماضي والمستقبل: أن يكون الإنسان حيّاً

عندما تتصدّع القشرة، السقف، القوقعة، أو مهما كان ذلك الإطار الحافظ للـ «داخل»، فما يحصل هو أن شيئاً من الداخل يرشح إلى الخارج،  أو فإن شيئاً من الخارج يخترق الداخل عبر الصدع. وإما  أن يحصل الاحتمالان. وعادة يتدفق المسار من الجهة التي فيها الضغط الأعلى... كما البركان، أو ضغط ينابيع المياه الحارة، أو الحياة التي تخترق البيضة... أو عندما يحصل العكس (من الخارج إلى الداخل) لمّا تُختَرق صَدَفة السلحفاة إذا ما ضعف محتواها وماتت وتعفّنت، أو لما يسحب الهواء من داخل الزجاجة البلاستيكية، أو عندما يضرب حي سكني قنبلة فراغية. هذا ما يحصل في الطبيعة البيولوجية والفيزيائية، ولكن في المجتمع فدورة الضغط تكون بين الماضي والمستقبل وتكون غالباً مادة إرسال واستقبال الضغط هي نفسها.

في تناقض الماضي والحاضر

على عكس الطبيعة التي يمكن فيها تمييز مسارات الضغط، وتياراته، فإن الضغط الاجتماعي والصدوع التي ينتقل عبرها أكثر تجريداً. فلا وجود للداخل والخارج (عكس الفكر الوطني القومي بالمعنى الشوفيني). ونمو المجتمع هو في تطور العلاقات الاجتماعية. فهذا ما يميزه عن النمو الطبيعي الملموس. وهذا نفسه يمكن تلمسه في الإنسان. فالإنسان ومنذ أن سيطر على الطبيعة وأنتج الأدوات، صار نموه على المستوى العقلي والذهني طاغياً، لا تطوره البيوفيزيولوجي كما حصل معه عبر تاريخ تطور النوع. وهكذا فإن تطور المجتمع هو في علاقات الإنتاج نفسها. وعندما يظهر الصدع في صَدَفة هذا المجتمع، في تماسك العلاقات الاجتماعية، نتيجة الضغط المتراكم، فإنه يتحرك ضمن مادة هذا المجتمع الواحد، فلا خارج بالنسبة لهذا المجتمع ولا داخل... هو واحد. مجتمع البشرية نفسه منذ توحده في النظام الرأسمالي العالمي.

حتى لا نغرق في الإطلاق

لا يعني عدم وجود الداخل والخارج في حركة الضغط الاجتماعي، أن المجتمعات على الكرة الأرضية لا تشهد حركة تنفيس الضغط من مكان إلى آخر جغرافياً. ولكن هذا الضغط في معناه التاريخي هو حدثي وليس بنيوي. أي إنه ليس تنفيساً للضغط في بنية النظام الرأسمالي بل انتقالاً له. إعادة ترتيب له. طالما أن العلاقات (القوقعة) لم تنهر ولم تتغير. ولهذا، فإن طابع حركة الضغط تحصل في مكانها. الضغط يتحرك «في الزمان»، حيث يلتقي الماضي والمستقبل. فالقشرة التي هي علاقات الإنتاج هي ما يكبح و«يحفظ» الضغط الاجتماعي الناتج عن التناقضات في نظام المجتمع. وهذه التناقضات كما هي تمثل الماضي، فيها شيء من المستقبل. هذا بديهي.

نقطة لقاء الماضي والمستقبل

في تلاقي، تجاور، تداخل الماضي والمستقبل الذي يحكم حياة المجتمع وتطوره، فإنه ينتج تجربة إنسانية واعية هي التي تنتج عنها ظاهرة الأمل، وارتقاب المستقبل في ذات لحظة عيش «الماضي» (الذي هو حاضر البنية الذي صار لزاماً تجاوزه). وكلّما اتضح المستقبل ذاك كلّما تحرك الضغط من الماضي.. نحو التصور المستقبلي. وكلّما كان ذلك غامضاً كلما بقي الضغط في جانب الماضي. أمّا الفرق، فهو في الحالة الأولى، إذا ما انتقل من الماضي إلى المستقبل، فهو يحمي الجسم الحامل للمستقبل من الدمار. أما في الحالة الثانية، فهو يصهر مصدره. في الحالة الأولى يحوّل مصدره نوعياً نحو كائن مستقبلي، أما في الحالة الثانية فهو يقضي على هذا المصدر، في تحويله إلى متحجّر، من ترسبات الماضي ليس له أية حياة قادمة.

في الذاكرة

هذه الحركة بين الماضي والمستقبل تتكثف أكثر ما تتكثف في التجربة الفردية. فالمستقبل بالنسبة للبشرية اليوم هو مجتمع الإنسان الحيّ، المنتج، القابض على واقعها وتطورها. الإنسان الاجتماعي المندمج مع غيره ومع الطبيعة. أما الماضي فهو حاضر نظام الرأسمالية الهمجي، التنافسي، الاستهلاكي، البارد، المليء بكل شيء غير إنساني. وكلّما غاب المستقبل في الفرد، كلّما غرق في مستنقع اللاإنسانية، ومات شيء منه حتى يصير «زومبي». أمّا كلما ارتفع وزن المستقبل فيه، كلما نقل الماضي معه إلى المستقبل، محولاً له بالمعنى الحيّ، ناقلاً الضغط إلى مساحة أخرى، هذا الضغط الذي هو طاقة الحياة التي يمتلئ الماضي بها. ناقلاً إلى المستقبل خلاصة الماضي. أما في الحالة الثانية، فخلاصة الماضي تموت. هكذا بقيت لنا روايات من عاش تجربة الحروب وأصرّ على تدوينها وهو في عقله ينظر للنصر القادم، والمستقبل. في كتابته ثبّت صراعه وأبقى عليه. فما رشح لنا من الماضي كان عبر شقوق حضور المستقبل باكراً في عقل من عاش الماضي. التزامن الواعي للمستقبل والماضي في عقل الإنسان هو تزامن حضور المستقبل في البنية الاجتماعية نفسها.

وزن المستقبل الكبير

في صراع البشرية اليوم يجب أن يتم تعظيم حضور المستقبل. أو بالأحرى، بلورة حضوره وتظهيره. فالمستقبل حاضر ولا شك. ولكنه مدفون في صخب وضجيج وترسبات الركام والدمار الذي دفن تحته الشيء الكثير. ركام قذارة العيش في ماضي الرأسمالية ليس شيئاً إنسانياً البتة. وهذه المهمة يجب أن تتصدى لها القوى الحية على مستوى العالم، نظرياً وخطابياً وإعلامياً وتنظيمياً. فإما أن يهدم الضغط القشرة ويتبدد، وإما أن يتم تحويل طاقته إلى بناء صَدَفة الحياة الجديدة. مهمة إلى جانب مهام أخرى لا يمكن تأجيلها.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1048
آخر تعديل على الأحد, 26 كانون1/ديسمبر 2021 00:22