الجمال.. الحاضر الغائب

الجمال.. الحاضر الغائب

تتمايل الأجساد طرباً بهوس مسعور.. تتلألأ الأضواء ولاتمل العيون من التنقل بين هذا وذاك.. ضجيج ممنهج من الأصوات لاتنفك تتعالى طبقات فوق طبقات تدفن معها كل ما عهدناه جميلاً..

هل يجرؤ أحد على السؤال؟ «لكن ما الجمال..؟».  يبدو أن هناك من أجاب بالفعل.. كان الجمال يسكن في ترانيم الرهبان ومدائح المؤمنين.. كان الجمال في سمرة وجه لفحته شمس الحقول .. الجمال في مصادفة الابتكار.. في الخلق المتجدد.. في القلب لا على رقصات الغرائز.. لكن في غمار أزمات هذه الأيام.. نرى أزمة جمال..

نسي الجميع منبع الجمال..آلت الأشياء إلى تابوت رمادي مصمت أسمنياه الحياة .. نسينا بأن ما يصنع حياتنا هو ذلك الاتصال اليومي مابين طبيعتنا كبشر والطابع المادي للمواد، والأشكال التي تتوزع في أرجاء حياتنا.. وعلى ضوء شرارة هذا الاحتكاك تتفتح براعم الجمال وتزدان النفس البشرية بنعمته.. في عملنا اليومي -أياً كان- نحيا من جديد وفيه نعيد تشكيل ملامح أنفسنا في حلقة سحرية تخلق وتجعلنا خالقين.. لذا يمكن لتلك الحلقة أن تتلاشى إلى غير رجعة عندما يتحول ذلك التفاعل اليومي إلى نسخة مكررة رتيبة وحيدة اللون لا تسعى إلى أي شكل من التطوير والتحسين.. لتتحول ثقافة إدراك الجمال وتقديره إلى ثقافة التسليع التي تميز بها الفكر الرأسمالي .. تلك الثقافة التي نشعر بهيمنتها السلبية أيضا في طبيعة التواصل البشري المعاصر بوجهه الالكتروني الغيبي، فنحن نهدر معانينا اليومية على أكثر الأشياء سطحية وتحت ظروف ومواد بالتأكيد من صنعنا لكنها ليست على هوانا .. هي مفرزات تلك الثقافة الاستهلاكية التي تبخس من حق الانسان مقابل سطوة المال ..

يُقتل الجمال كل ليلة..نراه يختنق في ازدحام مايسمى برامج «المواهب»، التي أصبحت تلاحقك أينما ذهبت.. ابتسامات باهتة تريد أن تقنعك بأنك الحكم الأكبر في هذه الاكتشاف..وإنك من سيصنع فنان المستقبل .. لكن في الحقيقة، ليس لديك سوى اختيار وردة من كومة الورود المصطنعة أمامك.. لا خلاف بينها إلا في صباغ اللون.. وسيدعمك في ذلك ثلة من «كبار المراجع» الفنية التي لا تريد أن يفوتها القطار وتغمر في مجاهل النسيان لذا تراها كالعلقات تتمايل بخفة مع الضوضاء المتصاعدة حد الجنون..

أين منا الجمال الأسطوري الكامن في خالدات الألحان والأشعار .. في إرهاق فيروز والراقصين بعد سهر وتمرين طويل ومحاولات شتى من عاصي الرحباني لإخراج عرض مسرحي أصيل .. لا تستطيع أن تميز فيه أيها الأكثر صدقاً، الكلمة أم اللحن أم المسؤولية التي يتعامل بها هؤلاء المبدعون مع نتاجاتهم الفنية.