قصة الإضراب وكيف انتهى
مكسيم غوركي مكسيم غوركي

قصة الإضراب وكيف انتهى

تبدد الظلام وتهادى الفجر منتصراً يبشر بقدوم الصباح، وسارعت نسمات البحر العليلة لتثير الحبور والبشر بين أشجار النخيل التي أخذت تتمايل طرباً في حديقة البلدية على نغمات الطيور الشادية.

وأخذ الأطفال يمرحون في الشوارع وهم أنصاف عراة. وقد علا إلى السماء رنين ضحكاتهم. لقد دبت الحياة في المدينة- مدينة نابولي- كسائر أخواتها من المدن الإيطالية. وها هو عامل يتجه إلى ميان «النجاح» وقد أدهشه الزحام الشديد ... إنه الإضراب.
لقد أضرب عمال الترام، فتوقفت الحركة، وكان قد اجتمع في الميدان جمهور من المضربين، يتجادلون فيما بينهم، يتضاحكون ببشاشة أهل نابولي المعروفة عنهم، بينما كان جمهور آخر من الناس يحيط بهم ويرمقهم بنظرات تشف عن عداء صريح. وكان هؤلاء الناس من أبناء الطبقات الوسطى وما دونها، يركبون الترام صبيحة كل يوم من ضواحي تلك المدينة الكبيرة إلى مراكزهم أو بالعكس لمزاولة أعمالهم في التجارة والصناعة، ولذا فليس من الغرابة في شيء أن يصبّ الجمهور لعناته وانتقاداته على المضربين، وقد تعطلت مصالحهم بسبب ذلك الإضراب.
وما هي إلا لحظة حتى ازداد الغضب اشتعالاً في نفس الجمهور، فأخذ يتحرش بالمضربين تحرش الكلاب بقطيع من الذئاب، ومما زاد في استياء الجمهور أن المضربين ازدادوا حزماً وصلابة، وأخذ بعض الراكبين في العربات المعطلة يهدئون من ثورة الجمهور قائلين: يا سنيور ماذا تظنهم يفعلون؟ أجورهم لا تكفي لإشباع عائلاتهم حتى بالمعكرونة فقط!
وهناك على بعد من الجمهور كان يقف رجال البوليس بملابسهم الأنيقة، وهم يتضاحكون من اشتداد حركات الأيدي وإشاراتها وصياح الجمهور، وكان البوليس يشعر بأمان مركزه، تشعرهم بذلك البنادق الخفيفة، وهي على أهبة التصويب من الزقاق المجاور حيث تختبئ شرذمة من الجنود المسلحين.
سادت فترة من الهدوء، وإذا بصيحة تعكر هذا الصفو المؤقت: الجنود. وما هي إلا لحظة حتى سارع المضربون إلى الاعتصام بعضهم ببعض، وتنبّه فريق من الجمهور لحقيقة الأمر، بينما ساد البعض الآخر فترة من الدهشة، سرعان ما زالت. وعلا بعدها الصفير والصياح، استهزاء ونكاية بالمضربين.
ولم يمرّ وقت طويل حتى أخذ المضربون يشقون طريقاً لهم وسط الجمهور متجهين صوب عربات الترام الخالية وقد احتد الغيظ في صدورهم، وهم يجيبون على انتقادات الجمهور بسيل من السباب.
ساد الهدوء مرة أخرى، وإذا بفرقة من الجند تأتي من ناحية رصيف سانتا لوتشيا، يتقدمها ضابط شاب جميل الطلعة، تشف عيناه الاحتقار لكل من حوله، وأخذ رجل ضخم من أصحاب القبعات العالية يحدثه وقد انتابه انفعال شديد.
وعندئذ أخذ الجمهور في الابتعاد عن العربات، بينما اصطف الجنود بجانبها، أما ذلك الرجل البدين وبعض من حوله، فقد أخذوا يصيحون بالمضربين الذين قفزوا مسرعين إلى العربات: إننا ننذركم هذه المرة الأخيرة، وللمرة الأخيرة! هل تسمعون؟
ولكن المضربين لم يذعنوا للتهديد، فتقدم الرجل الضخم وقد كان مندوب شركة الترام، إلى الضابط وأخذ يحدثه بصوت عال، مما جعل الضابط يعطي الأمر لجنوده باحتلال العربات وتسييرها. وإذا بالمضربين يتركون العربات حين هم الجنود بتنفيذ أوامر ضابطهم، فأثار هذا ضحك الجمهور، وتعالت صيحاته، غير أنها لم تدم طويلاً، إذ ما لبثت أنظار الناس أن اتجهت، وقد عمتهم الدهشة، إلى العربة الأمامية، تقدم أحد السائقين وقد انبطح على الخط الحديدي، وتبدى للناس بشعره الذي اشتعل شيباً، وشاربيه الطويلين، وكأنهما يهددان السماء بطرفيهما المدببين، فيا لهول المنظر! ها هم زملاؤه يتقدمون، وها هو أحدهم ينبطح بجانبه، وها هو ثان وثالث ثم رابع، وسرعان ما انبطح كل المضربين.
زالت دهشة الجمهور فعاد إلى الضجيج وامتزجت أصوات الازدراء والغيط بتأوهات النساء وصلاة البعض.
أما مندوب الشركة، فقد أخذ يلح على الضابط الذي لم يكن لديه أمر بالاشتباك في معركة مع المضربين، بأن يأمر الجنود بإنهاض المضربين وبتنحيتهم عن الخط بالقوة. فتحير الضابط، غير أن حيرته لم تدم طويلاً تحت تأثير مندوب الشركة، فأمر الجنود بذلك. وفجأة حدث ما لم يكن بالحسبان، إذ أسرع الجمهور الذي كان ينتظر بفارغ الصبر إعادة سير الترام منذ لحظة وانبطح بجانب المضربين، مشجعاً إياهم على عدم الرضوخ للشركة الظالمة الجائرة.
وهكذا بعد أن كان موقف المضربين المنظمين في بادئ الأمر متوتراً، أصبح بعد انضمام الجمهور إليهم ممزوجاً بالهتاف، إذ أخذ المنبطحون ينظرون إلى بعضهم البعض ويبتسمون، بينما دنا الباقون من الضابط، وقد وقف يضحك أمام ذلك الرجل الضخم ويسرّ إليه ببعض العبارات.
أخذ عدد المنبطحين في الزيادة شيئاً فشيئاً، من رجال ونساء، وأخذ الأطفال بحكم غريزتهم يتمرغون في التراب، ولا سيما بعد أن لاحظوا أن بعض الرجال المتأنقين يسبقونهم إلى ذلك.
كان موقف الجمهور يدل على النبل حقاً، فتأثر الجمهور مما حدث. وسرعان ما تلاشى عن وجوههم ذلك المظهر الجاف المصطنع، وأخذوا يضحكون وهم يشرفون من نوافذ العربات على المنبطحين من الجمهور والمضربين.
ومرت نصف ساعة بعد أن خضع ممثل الشركة لمطالبهم بفضل تضامن الجمهور معهم، تحركت عربات الترام بين مظاهر الابتهاج والهتاف. وكان مستخدموها يستقبلون الركاب ببشاشة ولطف. بينما كان الركاب يبادلون الموظفين والسائقين ذلك اللطف إعراباً عن عطفهم على قضيتهم.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1034
آخر تعديل على الأربعاء, 08 أيلول/سبتمبر 2021 23:22