صور من إبداع الحركة الشعبية في انتفاضة الجلاء 1945
يعود انتصار الشعب السوري في انتفاضة الجلاء في أيار وحزيران 1945 إلى جملة من العوامل، ومنها: حركة شعبية واسعة في سورية كلها بمشاركة فئات مختلفة من الشعب. الاتحاد في جبهة وطنية للنضال ضد الاستعمار والإمبريالية. تأييد الاتحاد السوفييتي والبلدان الاشتراكية «الفيتو السوفييتي» وتضامن الشعوب العربية مع نضال الشعبين السوري واللبناني في سبيل الجلاء.
وفي الذكرى الـ 76 لانتفاضة الجلاء، نتذكر صوراً ومحطات من إبداع الحركة الشعبية والجماهيرية في مختلف أنحاء سورية.
قلعة الجلاء في دمشق
غصت دمشق بالمظاهرات الشعبية، وأقبل الناس على قلعة دمشق للتطوع دفاعاً عن الوطن. تحولت قلعة دمشق إلى «قلعة الجلاء»، التي كانت مركزاً للمتطوعين الوطنيين الذين قاتلوا الاستعمار. وحدثت مجزرة رهيبة عندما قصف المستعمرون مبنى البرلمان وأحياء المدينة ذهب ضحيتها قادة حامية البرلمان طيب شربك وسعيد قهوجي ورفاقهم والمئات من الشهداء والجرحى الآخرين في مختلف أنحاء دمشق.
وأثناء غياب الحكومة وقصف دمشق، قاد الشيخ الجليل محمد الأشمر زمام المبادرة وفرض سلطة شعبية في حي الميدان وبقية أحياء دمشق، فبسط الأمن ومنع السرقات وضرب على أيدي اللصوص، وحمى الأسواق ومخازن الغلال، من أعمال النهب، وقام بتوزيع الوطنيين على أطراف المدينة لحمايتها، وردّ على العدوان. وتنظيم وتسيير الأمور اليومية للناس ومنع حدوث الفوضى.
كما جرى تنظيم لجان حراسة الأحياء في باب توما والقصاع وغيرها من المناطق، إضافة إلى الكثير من نواحي ابداع الجماهير الدمشقية التي عكست نماذج من إبداع الجماهير التي تأخذ زمام المبادرة.
عاصمة مؤقتة في السويداء
نجحت حركة 29 أيار التي قادها الوطنيون في تحرير محافظة السويداء ورفع العلم الوطني على قلعة السويداء وصلخد وبقية المناطق وأسر المحتلين دون إراقة الدماء، وعرفت باسم «الانقلاب الأبيض».
وعندما قصف المستعمرون مدينة دمشق والبرلمان وحدوث مجازر 29 أيار، أصبحت السويداء مركز الثورة السورية الكبرى التي قادها سلطان باشا الأطرش سابقاً، «عاصمة مؤقتة» لسورية ريثما تنفرج الأمور، وسافر وطنيو السويداء للمشاركة في تحرير طرطوس وتدمر واللاذقية.
حكومة مؤقتة ونداءات في دير الزور
أعلن الوطنيون «حكومة مؤقتة» في البوكمال بعد تحريرها ريثما يتم تحرير كامل البلاد من الاستعمار والاحتلال الأجنبي. ونشرت حامية دير الزور بعد تحرير المحافظة، النداءات إلى زملائهم في الرقة لطرد المحتلين. وتعرضت دير الزور إلى قصف المستعمرين ذهب ضحيتها حوالي 200 شهيد. وشملت الحركة مدن دير الزور والمياذين والبوكمال وبلدات الريف مثل: موحسن وغيرها. وبعد تحرير دير الزور، سافر الوطنيون إلى أقصى الشمال الشرقي في الجزيرة السورية، ورفعوا العلم الوطني في عين ديوار. كما قصف الفرنسيون مدينة الرقة بالمدافع لمدة عشرين دقيقة.
مركز القيادة الوطنية في حماة
قضت حماة أسبوعين من المظاهرات والإضرابات، وبتاريخ 24 أيار 1945، تحولت مباراة كرة القدم إلى معارك بين الوطنيين والمحتلين. وانطلقت مظاهرة تطوف أحياء حماة يرفدها المئات من سكان الأحياء المجاورة وأغلقت المحلات أبوابها في حي الجعابرة والدباغة وتبعهم السوق الطويل. حدث إضراب عام وحاصر المتظاهرون مقر الأمن الفرنسي العام، وتسلق أحد الفتيان المبنى وأنزل العلم الفرنسي ورماه للمتظاهرين الذين داسوه ومزقوه، فهتف الزجال على الأكتاف: يا ثورتنا هلّي، هلّي... خلي الاستعمار يولي.
وشكل الوطنيون «مركز القيادة الوطنية» الذي أخذ على عاتقه إدارة المدينة وتحريرها. وبدء المركز يذيع البيانات والتعليمات إلى الناس. كما شكل المركز لجان التموين والإعلام وضبط الأمور في المدينة. وتوافد أبناء مختلف الأرياف الحموية للمشاركة في طرد المحتلين. ونشبت معارك عنيفة انتهت بالتحرير.
صور من حلب والجزيرة
وفي مدينة حلب، اندلعت معارك المتاريس مع المستعمرين، وحدثت مظاهرات في الأحياء، وسقط العشرات من الشهداء. وقد بدأت المعركة عندما أطلق المستعمرون النار على مظاهرة سلمية لطلاب المدارس، ثم أصبحوا يطلقون النار على كل المارة في الشوارع، وكان لوحدة مختلف القوى الوطنية دور مهم في مدينة حلب خلال النضال الوطني في أيار 1945. وتحولت دار المحافظة إلى مركز لتقاطر الوفود الجماهيرية التي جاءت لقتال الاستعمار من مختلف الأحياء والأرياف. وجاء الوطنيون حتى من السقيلبية واللاذقية للمشاركة في معارك الجلاء في حلب.
وخلال الإضراب الطويل في مدينة حلب أثناء انتفاضة الجلاء، تشكلت في مختلف الأحياء الحلبية «لجان توزيع الخبز». كان مهمتها جمع ثمن الخبز من الأهالي كل حسب حاجته وقت العصر، وتبات اللجان ساهرة في المخابز طوال الليل، ساهرين على خبز العجين وتبريده ووزن الكميات المطلوبة وتوزيعها على أصحابها صباحاً في بيوتهم، وكان السكان يستقبلون هذه اللجان بالتهليل والدعاء. واختفت الطوابير أمام الأفران وارتاح الأهالي من ساعات الانتظار.
وفي كفرتخاريم وجرابلس، حاصر الأهالي الثكنات الفرنسية ورفعوا الأعلام الوطنية فوقها. وفي عين العرب، تشكلت قيادة موحدة للهجوم على الثكنة الفرنسية ودار المستشار واحتلالها من مختلف القوميات عرباً وكرداً وأرمن. وفي منطقة عفرين، شارك الوطنيون والأهالي ورجال حركة المريدين «قادة ثورة الثلاثينات في جبل الأكراد» في النضال الوطني وتحرير المنطقة، ومن ثم المشاركة في معارك حلب. وكانت جدران مدينة الباب لا تخلو من الشعارات التي تطالب بالجلاء ورحيل المستعمرين.
كما حدثت معارك عنيفة في جسر الشغور وإدلب ونواحيها، وتوافد أهالي سراقب وبقية الأرياف لنجدة إدلب «كانت تابعة لحلب في ذلك الوقت». كما تصدى سكان جسر الشغور للحملات الفرنسية القادمة من اللاذقية لفك الحصار عن جنودهم في حلب.
وفي الجزيرة، تشكلت القوى الوطنية من قوات الدرك التي يقودها برهان قصاب حسن في القامشلي وقوات المقاومة الشعبية بقيادة سعيد آغا دقوري وبقية الوطنيين في عامودا والدرباسية والحسكة. وتعرضت مدينتا الحسكة والقامشلي إلى قصف بالأسلحة الخفيفة والمتوسطة. كما وصلت نجدات الوطنيين من دير الزور وجرى تحرير كامل الجزيرة.
معارك حوران والساحل السوري
عندما سمع أهالي درعا بمجازر دمشق واعتقال عدد من الوطنيين في حوران، بدأت المعركة، ودامت معارك الجلاء في حوران ثلاثة أيام بلياليها، وانتهت بانتصار الأهالي على جنود الاستعمار.
وعند قيام القوات الفرنسية بضرب مقر البرلمان السوري في 29 أيار 1945 واستشهاد الكثير من الوطنيين، أرسل الشيخ صالح العلي «قائد ثورة الساحل سنوات 1919-1921» برقية إلى سعد الله الجابري رئيس المجلس النيابي السوري يعلن فيه استعداده لدعم أي إجراء يكون مناسباً ضد المستعمرين.
نص البرقية: «سيوف المجاهدين تتململ في الأغماد. ونفوسهم في غليان واضطراب. لا نقبل أن تمتهن وتخرق حرمة الاستقلال. إننا للمعتدين بالمرصاد. وسيرى الظالمون أي منقلب ينقلبون». صالح العلي
وفي كسب، شكل الوطنيون فصائل الأنصار لطرد المستعمرين، واستسلمت لهم المفرزة الفرنسية بدون قتال، ثم ذهبوا للمشاركة في معارك اللاذقية، حيث نشبت معارك عنيفة، وخاصة في حي القلعة، وسقط عشرات الشهداء وعشرات الجرحى.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1019