الإعلام السوري وحرب المخدّرات

الإعلام السوري وحرب المخدّرات

عُد المجتمع السوري لفترات زمنية طويلة مجتمعاً صحيّاً خالياً لدرجة كبيرة من المواد المخدّرة، التي كان تعاطيها وتداولها يحصل في دوائر ضيّقة جداً وبتكتمٍ شديد. فشرائح واسعة من الناس لم تكن تعرّف شكل تلك المواد أو رائحتها، ولم تكن تستطيع أن تميّز قطع الحشيش عن كومة حصى صغيرة. ماذا حصل في السنوات الماضية حتى طُمّر المجتمع بالمواد المُخدّرة، وكيف يتعاطى الإعلام الرسمي السوري مع التغيّرات على هذا الصعيد؟

«خبر عن المخدّرات» بخمس خطوات

طوال سنوات، لم تستطع قنوات الإعلام السوري الخروج بصيغة أخرى توثّق فيها مساعي القبض على الخارجين عن العدالة، فما زال القالب الذي كرّسه برنامج «الشرطة في خدمة الشعب» سارياً حتى اللحظة.
رجالٌ يقفون صفاً واحداً بمواجهة الحائط لإخفاء وجوههم، فيما تظهر الأغلال حول معاصمهم، طاولات انتشرت عليها حبوب من المواد المخدرة، أكياسٌ مختومة لمواد مُخدرة تقبع في مخازن فروع مكافحة المخدرات ووزارة الداخلية.

يتم عنونة معظم التقارير المُخصصة لرصد عمليات كشف شبكات الاتجار بالمخدرات بـ «فرع مكافحة المخدرات، يلقي القبض على..». وهو عنوانٌ واحد تتغير فيه فقط أسماء المدن والمحافظات. يمكن سوق مثال على ذلك: أحد الأخبار المنشور قبل أيام على صفحة إحدى القنوات الرسمية السورية. فالخبر الذي أرفق بصورة لافتة «فرع دمشق لمكافحة المخدرات يتحدث عن النجاح منقطع النظير لفرع مكافحة المخدرات في دمشق في إلقاء القبض على شبكة مؤلفة من 16 شخصاً يقومون بحيازة المواد المخدرة وتعاطيها والاتجار بها وترويجها لقاء المنفعة المادية». ضمن متن الخبر ترددت عبارة «إثر المراقبة المستمرة والحثيثة» عدّة مرّات مع مراعاة ذكر بعض التفاصيل الرتيبة لعمليات المراقبة، ومن ثم إلقاء القبض على أعضاء الشبكة، في حين ينتهي الخبر بوعد بإكمال الجهود لكشف متورطين آخرين. وبهذا يمكن اعتبار هذا الخبر بمثابة صيغة موحدة مكررة لجميع الأخبار ذات الصلة. ولذلك يمكن القول: إن الخبر السابق رتيب، غير مؤثر، مكرر، ومفتقد للموضوعية بحيث يحقق الغرض من نشره؛ ولا يُحدث أي شكل من أشكال التأثير.

للمفارقة، يؤكد تقرير صادر عن بعض المؤسسات الرسمية السورية، بأن مستويات تعاطي المواد المخدّرة ما زال منخفضاً في سورية. وتقترح الجهات المعنية ضرورة التركيز على «دور وسائل الإعلام» والتربية المدرسية والبيئية وتعميق دور الأحزاب الوطنية والمنظمات الشعبية بغية «الإحاطة بهذه الآفة الخطيرة ومكافحتها من جذورها» كما يقول التقرير. من اللافت أيضاً أن هذه التقارير حاولت أن تحمّل الآباء جزءاً من المسؤولية في تعاطي أبنائهم للمواد المخدّرة، كما لو أن «المخدّرات» مجرّد مشكلة عائلية.

الجماهير تهلل للعدالة

من المثير للاهتمام رصد طبيعة التعليقات التي تُنشر على صفحات قنوات الإعلام السوري على مواقع التواصل الاجتماعي تعليقاً على الأخبار المُرتبطة بإلقاء القبض على شبكات تجّار المواد المخدّرة. فهناك شريحة ما زالت تُشجّع وتهلل لهذه الجهود بعبارات من قبيل: «يحيا العدل» و«بوركت أيديكم» و«أنتم العين الساهرة»، هذا ويصعب بالطبع تحديد إذا ما كانت العبارة الأخيرة تُقال على سبيل المزاح أو الجد. لكن، وفي المقابل هناك تعليقات أخرى تشي بالدرجة الكبيرة من الـ «التطبيع» في العلاقة مع فكرة وجود المخدرات في سورية وتداولها، فهناك شبان يذكرون في تعليقاتهم أسماء المواد المخدّرة الظاهرة في الصور، كما لو أنهم يحفظون درسهم، أو يسخرون من فكرة اعتبار الحشيش مادة مخدّرة في المقام الأول. هناك من يكتب معلقاً عن نوع بذرة الحشيش، وآخرون يقترحون توزيع حصص متساوية منها على الجميع.

من جهة أخرى يُخصص كمٌّ كبير من التعليقات للّف والدوران حول فكرة واحدة فقط: «أنتم تستقوون على الشبكات الصغيرة فقط، والتجّار الصغار، وتتركون التجار الكبار طلقاء». فيما تعبّر مجموعة ثانية من التعليقات المكررة جداً جداً عن مقولة: «خلي الشعب يزهزه وينسى»، في حين نرى أشخاصاً آخرين يلومون فقر الناس وحاجتهم التي أجبرتهم على سلوك هذا الطريق. وحينما نشر ذات يوم تقرير عن ضبط شحنة مخدرة يتم إدخالها إلى سورية بصورة غير قانونية، كثرت التعليقات التي تستغرب من دخول المخدرات إلى دولة باتت من أكبر مصدري المواد المخدرة في المنطقة. كل تلك الكلمات تشي بكمّ المعلومات التي يملكها الناس عن ملف المخدرات في سورية من خبراتهم اليومية المُعاشة في أوساطهم الاجتماعية، وكمّ الانطباعات التي يملكونها عن وظيفته السياسية في شغل الناس وإلهائهم.

الإعلام الغربي يهوى الكشف عن شبكات الاتجار بالمخدّرات

في النهاية، من غير المنصف الانقضاض بالنقد على الإعلام الرسمي وتعاطيه الجامد مع ملف المخدّرات، ونحن نعلم بأن القرار في موضوع كهذا هو شأن سياسي في المقام الأول. من المستبعد أن يفضّل الإعلاميون تكرار صيغة خطاب واحدة إلى ما لا نهاية، لأن ذلك ببساطة يعني بأنهم لم يعودوا صحفيين بل آلات طباعة.

من جهة أخرى، تتطوّع الكثير من القنوات الغربية بصورة خبيثة لتصور عبر وثائقياتها وتقاريرها ما يتجاهله الإعلام الرسمي، مثل: حركة المهرّبين وآليات عملهم مع التركيز على الدور الذي يلعبه نهر الفرات في بعض تلك العمليات. من جهة تستفيد تلك القنوات من عناصر الإثارة الموجودة في أخبار من هذا النوع، وتحاول توظيفها سياسياً لتعزيز الأفكار حول فوضى المنطقة وخروجها عن السيطرة. فكما يكون لنهج التعتيم والتجاهل وظائفه، فللمبالغة بالكشف والتوثيق أهدافها أيضاً. وبالتالي، تصطف اليوم التقارير عن المخدّرات في سورية جنباً إلى جنب مع أخبار «الأفيون الأفغاني» و«القات اليمني» و«الكوكايين في كولومبيا». بمجرد استعراض أسماء تلك الدول مقرونة بالمواد المخدّرة، ندرك نحن القرّاء أننا لا نحتاج إلى عون التقارير الإخبارية كي تشرح لنا القصة كاملة؛ فالمخدرات أداة مضمونة ومجرّبة لنشر الفوضى.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1008
آخر تعديل على الإثنين, 08 آذار/مارس 2021 13:08