أدب المأزق: انتظار العدو الذي لا يأتي.. (2)

أدب المأزق: انتظار العدو الذي لا يأتي.. (2)

ترتبط إيطاليا في أذهّان القرّاء العرب بالصخب، والألفة، والحميمية. إلّا أن رواية «صحراء التتار» للكاتب الإيطالي الشهير دينو بوتزاتي لا تمت بصلة لإيطاليا التي نتخيلها، والتي تحصل أحداثها في بقعة باردة، موحشة، منسية من العالم.  فبوتزاتي الذي مارس طوال حياته العمل الصحفي، كتب روايته الشهيرة هذه متأثراً بالخبرات التي عاشها كصحفي مرابط في إفريقيا خلال الحرب العالمية الثانية، ومسكوناً أيضاً بساعات العمل الطويلة التي قضاها في مبنى جريدة «الكورييري ديلّلا سيرا» متأملاً في فكرة الزمن والروتين والحياة التي يتم ابتلاعها. 

لم يقع أي شيء

تبتدئ الرواية بوصف لحظات الاستعداد القَلِقْ للضابط جيوفاني دروجو الذي تخرّج حديثاً من الكليّة الحربية وتوجّه للخدمة في قلعة باستياني الواقعة في منطقة حدودية نائية. تُطلُّ القلعة على صحراء شاسعة من الحصى تُسمّى «صحراء التتار» لأن الأساطير القديمة تحكي بأن التتار هاجموا البلاد عبرها يوماً، رغم أنه لم يسبق خلال مئات السنين أن قطع تلك الصحاري الخاوية أحد.
ولذلك وعلى امتداد صفحات العمل، يسخر الكاتب بصورة ضمنية من العقلية الحربية المُهيمنة التي تحصر مفهوم المجد بتحقيق الانتصارات العسكرية. يصف استعدادات الجنود وثيابهم وأسحتهم الجاهزة دائماً لإطلاق النار والمدافع المُوجّهة على وادٍ خاوٍ، كما لو أن الجميع على أهبة الاستعداد، لكن ووفق كلمات أحد ضبّاط القلعة: «لم يحدث قط أن جاء العدو من هذه الناحية، ولم يدر هنا أي قتال، ولم يقع هنا أي شيء».

حين أغفى الضابط على السرير

ينتاب الضابط الشاب، جيوفاني دروجو، منذ اللحظات الأولى التي تقع فيها عيناه على هيكل القلعة رغبةٌ غامضةٌ بالرحيل وعدم الدخول. لكنه وبعد تقديمه طلب نقله إلى مكان آخر، يوافق على مضضٍ في البقاء مدة أربعة أشهر فقط، تمتد وتطول بعد ذلك. قد يظن القارئ هنا أنه أمام حبكة رواية بوليسية، ويسأل نفسه عن طبيعة الأهوال والأحداث التي قد يصادفها دروجو بعد أن عدّل عن الرحيل. لكن ما يحصل أمرٌ أشد إخافة من قصة رعب في كتاب بوليسي، اختصرها بوتزاتي على الشكل التالي: «راح يفكّر في حياته حتى استولت عليه سنّة من النوم. وفي هذه الليلة بالذّات لو أنه عرف ذلك، لما راودته أية رغبة في النوم، ففي هذه الليلة بالذّات بدأت بالنسبة له عمليّة تسرّب الزمن». وهكذا يمتاز أسلوب بوتزاتي بالمباشرة؛ فهو يُعبّر صراحة وبإصرار على ألسنة أبطاله عن مقولة العمل الأساسية التي يبتلع فيها الروتين حياة البشر.

الخروج من الحفرة، الخروج من القلعة

على غرار ما حصل في رواية «امرأة في الرمال» يلاحظ القارئ أن بطل الكتاب يمّر بأطوارٍ من الرفض والمقاومة والمناورة قبل أن تبتلعه حفرة الزمن ويغرق مثل غيره، عاجزاً عن الخروج من القلعة أو عازفاً عن ذلك.
في البداية يحاول دروجو الاحتفاظ بوعيٍ خارجي مستقل؛ ينظر إلى ما يجري في القلعة بعيونٍ خارجية، لكن سرعان ما يلحظ القارئ كيف يبدأ هذا الوعي أو هذه المقدرة على الإدراك بالتراجع؛ فسلوك الجنود الذي يراه دروجو في الفصول الأولى من الكتاب، مثيراً للشفقة، وعبثياً وغير مفهوم، يصبح مبرراً وضرورياً.
تلك كانت لحظة التحوّل الذي تبدو فيها الحياة خارج القلعة باهتة، والمدينة مزعجة بضوضائها. أما داخل القلعة فسكينة محببة. ورغم أن مسار كتاب «صحراء التتار» تحدد منذ اللحظة التي قرر فيها الضابط الشاب البقاء في القلعة، لكن الحكاية لا تنتهي هنا. إذ يُترك للقارئ استكشاف روعة دينو بوتزاتي في إكماله رسم مصائر أبطال روايته. فبخلاف بطل «امرأة في الرمال»، استسلم الضابط دروجو سريعاً واختار طواعية البقاء، وهذا كان أشبه «بالخطأ التراجيدي» الذي سيُدفعه الكاتب ثمنه.

انتظار العدو كمبعث للأمل

«الآخر»، «العدو»، «التتار» في هذه الرواية كلمات تمتلك دلالة خاصة، فانتظار العدو والتأهب لمواجهته، هو الذي يصبغ المعنى على حياة الجنود في القلعة، لأنهم يَعِدون نفسهم بالمجد، ويسلّون نفسهم بالقول: إن هذا الانتظار لم يكن عبثياً. لولا فكرة وجود هذا العدو الذي قد يهاجمهم فجأة، ويتيح لهم إثبات أهمية حياتهم وجدوى انتظارهم، لم يكن الاستمرار بين جدرانها ممكناً. فالعدو هنا هو «الخارج» و«التغيير» و«الجدوى». ويُعبر عن هذه المقولة بعبارة تقول: «المكان هنا يشبه المنفى، ولذلك كان لا بد من إيجاد طريقة ملتوية تجعل المرء يأمل بشيء ما». لكن وكما يقول النقّاد عن أسلوب بوتزاتي: هو لا يُعطي القارئ فرصة التنفيس، يُغذي القراء والجنود معاً بأمل حصول شيء ما ويتركهم في مواجهة الخواء.

الأدب كفعل مقاومة

بالعودة إلى فكرتنا حول ما أطلقنا عليه اسم «أدب المأزق»؛ بعد قراءة «امرأة في الرمال» و«صحراء التتار» يجد القارئ نفسه يسأل: كيف يمكن لكتّاب من بلدين مختلفيّن من حيث البنية الثقافية والاقتصادية والسياسية كإيطاليا واليابان أن يُنتجا أعمالاً متشابهة في الجوهر خلال فترات زمنية مختلفة؟ وكيف يمكن أيضاً أن تتقاطع الشحنة الانفعالية للعملين مع مشاعر وأحاسيس قراء يعيشون في مكانٍ وزمن ثالثين، كسورية في 2021؟ فمنظومة الفوضى التي تخلقها الحرب تبتلع حيوات الناس وتجعلهم محكومين بروتين يُجمّد الزمن، فيما يبدو الكون من حولهم مستمراً في الحركة. من جهة يترك هذا التقاطع بين التجارب وتشابه المشاعر إحساساً بالسلّوى لوحدة الهموم والتجارب، لكنه وفي الوقت ذاته يعزز الشعور بحركة التاريخ، بما فيها من صعود من الحفر وهبوطٍ إليها.
وهكذا تكون تجربة قراءة هذا النوع من الأدب مخيفة ومُرهقة؛ كما لو أن القارئ يخاف أن يمسّه الجنون كأبطال الكتب، يخاف أن يَنسى الزمن ويجعلهُ ينسكب، أو يفقد إرادته ورغبته بالتغيير مُستسلماً بالكامل للأفعال الروتينية المجردة من القيمة والمعنى. لكن هنا أيضاً تتجلى روعة الأدب؛ حينما يُقرر إخافة القرّاء إلى تلك الدرجة بحيث يفطنون إلى أنفسهم، ويتأملون الشكل الذي تسير عليه حياتهم. عظمة الأدب تتجلى في كونه فعل مقاومة يرفض الناس عبره عيش حياتهم في حفر، أو في قلاعٍ منسيّة منتظرين وهماً لن يأتي.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1005
آخر تعديل على الأربعاء, 17 شباط/فبراير 2021 17:31