2020: تَعلّم الدروس على الطريقة الصعبة

2020: تَعلّم الدروس على الطريقة الصعبة

إبان نهايتها، تبدو سنة 2020 أشبه بدرسٍ توضيحي مُفصّل للقانون الشهير في الفلسفة المادية الديالكتيكية الذي يقول بأن: «التراكم الكمّي لا بد أن يؤدّي إلى انقلاب نوعي». فهذه السنة كانت نقطة تحوّل مفصليّة على مستويات عدّة: بيئية واقتصادية وصحيّة واجتماعية، وسياسية إذاً في المحصّلة. وفيما يلي سيتم التطرّق لبعض تلك التحوّلات. 

وحيداً في وجه العزلة

تعاظم في السنوات الأخيرة الحديث عن تحوّل الوحدة إلى ظاهرة مرضيّة عامة. لكن تجربة الحجر الصحي كرّست الإحساس بالمشكلة، ووضعتنا في مواجهة الحقائق المُرتبطة بالبنية الاجتماعية القائمة. فإيقاع الحياة السريع والضاغط كان يعيق هذه المواجهة مع الهشاشة الاجتماعية التي يعيشها الكثيرون، حتى كشفتها لهم تجربة الحجر، وحركت لديهم أسئلة حول طبيعة العلاقات الاجتماعية التي يعيشونها، ومدى كفايتها وعمقها. ما حدث في 2020 أجبر الناس بصورة أو أخرى على إعادة ترتيب أولوياتهم؛ ما حصل هذه المرة قد يحصل مجدداً، كل إدمان العمل، والتنافس والسعي للنجاح قد يذهب هباءً، ونجد أنفسنا لوحدنا تماماً في غرفة فارغة. وعلى هذا الصعيد لعبت هذه السنة دور جهاز إنذار يدفع الناس لخوض مجابهات مع الذات، أو كشف الثغرات في خطاب «الفردانية» الذي لطالما تم تكريسه ثقافياً واجتماعياً في السنوات الماضية، على اعتباره نمط الحياة المرغوب للعيش.

شعوبٌ تُنجد شعوباً

رغم أنه وعلى صعيدٍ فردي ضيّق كثيراً ما كان هناك شعورٌ طاغٍ بالوحدة أو العزلة. لكن في المقابل، وعلى نطاق أوسع بدا الأمر على النقيض تماماً. فهذا العام تحديداً كرّس شعوراً خاصاً بالوحدة والتضامن الشعبي لم يختبره الكثيرون منا من قبل. بصورة أو أخرى بات الانقسام واضحاً بين ما يسمى «فئات شعبية» وبين حكومات ورجال أعمال وشركات عابرة للقارات تعمل من أجل حماية مصالحها. للمرة الأولى بعد زمنٍ طويل، حصل ما يُذكرنا بأن لنا أجساداً تعمل بنفس الطريقة، وقد تمرض للأسباب ذاتها. أدركنا أيضاً أن المرض نفسه قد يكون عابراً للقارات والطوائف والأديان والحدود والفئات الاجتماعية، بحيث لا يسلم من الإصابة به أحد، وإن ظلّت حظوظ النجاة وفرصه غير متكافئة بين أصحاب المال أو النفوذ والآخرين الأقل حظّاً. كل ذلك أسس لوجود تيّار جديد يرفع شعار «النجدة المشتركة» أو المتبادلة.

فالاستجابة الدولية للوباء على صعيد الحكومات كانت مخيبة للآمال، وتحديداً في الدول التي ظنّ سُكّانها بأن لديهم بقايا منظومة رفاه اجتماعي تحميهم. لكن ما حدث حقاً أن الناس هم الذين حملوا هموم بعضهم، وأنجدوا بعضهم. فمشاهد الغناء وتحية الكوادر الطبية من شرفات البيوت لن تختفي من ذاكرتنا جميعاً، وكذلك الجهود المتواضعة لتخفيف وحدة كبار السن، وتأمين مستلزماتهم والاكتفاء بالتلويح لهم بالأيدي، ورفع معنوياتهم من أسفل شرفات البيوت. كان من المؤثر أيضاً مشاهدة كوادر طبية تترك بلدانها وتسافر لنجدة بلدان أخرى وتأمين حاجات المشافي الميدانية بعدما أكسبها العمل في بلادها خبرةً كافية. وضمن السياق ذاته، ظهرت مئات الحملات المحلية لجمع التبرّعات وسد بعض الحاجات الاقتصادية للفئات الأشد ضعفاً. وبالنظر لأن التغيّرات التي حصلت في 2020 ستنسحب وتستمر في القادم من الأيام، هناك ما يُؤذن بأن هذا الشكل من النجدة الشعبية قد يتعاظم مع الوقت، وتتضح ملامحه ودوره في خلق التغيير.

افتتاح حقبة الحرب البيولوجية

كثيراً ما روّجت الصحافة العالمية للرأي القائل باعتبار كورونا إيذاناً ببدء حقبة الحروب البيولوجية، لكن البت بصحة هذا الرأي أمرٌ شديد التعقيد، فكثير من المعلومات المرتبطة بفايروس كورونا ما زالت حتى الآن مجهولة، كالسؤال عن التوقيت الفعلي لبدء الوباء ومكانه وأسبابه وما قد يليه من أوبئة جديدة. لكن ورغم ذلك لا يمكن نفي هذا السيناريو تماماً، فالمنظومة السياسية القائمة كثيراً ما غيرت أدواتها؛ وانتقلت من حرب ساخنة إلى أخرى باردة، أو كرّست الفوضى وأشعلت حروباً بالنيابة في أراضٍ بعيدة. هي أيضاً خلقت «وحش الإرهاب» وحينما فقد هذا الوحش سحره ورصانته، كان لا بد من التفكير بعدوٍ جديد.
ولهذا ربما ومع الأيام الأولى من بدء انتشار الوباء، همس بعض السياسيين: «لا بد أننا مقبلون على 11 سبتمبر جديد» وقد يكون هذا ما حصل حقاً. فإن كان الهدف حصد أكبر عدد من الأرواح، وتدمير البنى الاجتماعية والاقتصادية للدول، قد يكون هذا ما يحصل حقاً الآن، ونكون فعلاً في خضّم حرب بدأت. لكن السوداوية الظاهرة لهذا السيناريو لا تُلغي حقيقة مضيئة تتعلق بتطور الوعي الشعبي بمرور الزمن، بطريقة تجعله يألف الوحوش التي كانت يوماً تُرهبه، ويورط المنظومة القائمة بتغير أدواتها التي قد تنجح فترة من الزمن، ومن ثم تنتهي صلاحيتها.

سلاح التخويّف ما زال نافعاً

كان عام 2020 بالتأكيد عام الذعر، ساد فيه إحساسٌ طاغٍ وعميق بالخوف، الأمر الذي أثبت أن «زرع الخوف وتكريسه» ما زال حتى اللحظة السلاح الأقوى والأكثر فعّالية في الهيمنة على البشر. دون الحاجة للخوض في مدى جديّة أو خطورة الوباء، لا بد من تلمّس الأثر السلبي لحالات الهلع، وسطوة الشائعات والمعلومات المتضاربة التي رافقته. رغم كل التطوّرات الحاصلة، اتضح أن الناس ما زالوا، وبعد مرور ملايين السنين، يخافون للأسباب ذاتها؛ هم يخافون الموت، يخافون المجهول، وعدم اليقين. وخوفهم هذا قد يتحوّل إلى أقوى سلاح قد يٌستخدم ضدهم. وهذا ما يفسر ربما بعضاً من دوافع الناس للخروج في مظاهرات في بعض المدن الأوروبية والأمريكية احتجاجاً على سياسات الحجر الصحي. فالناس بصورة أو أخرى كانوا، إلى جانب احتجاجهم على الظروف السياسية والاقتصادية المُتردّية، يُعبرون عن رفضهم لاستمرار سياسات الترهيب التي تحاول اخضاعهم والهيمنة عليهم عبر بث الخوف.

وبالنظر إلى كل ما سبق، يمكن تلمّس لحظات الانقلاب والتحوّل. هناك شيءٌ ما قديم، يتململ في مكانه ويبدأ بالتغيّر، رغم أن الشكل الجديد الذي سيسود ما يزال ضبابياً، وإن كان يمكن التنبؤ ببعض ملامحه، وتحديد الدور الشعبي في تغيير مساره.

معلومات إضافية

العدد رقم:
998
آخر تعديل على الإثنين, 28 كانون1/ديسمبر 2020 04:35