عصر «الذاتية» يذوي فكيف نمنع «الجبرية» من ملء فراغه؟

عصر «الذاتية» يذوي فكيف نمنع «الجبرية» من ملء فراغه؟

من المعروف أن الاتجاه العام الذي ميّز مراحل تاريخية ما يبقى تأثيره حاضراً وفاعلاً بتطوّر المجتمع واتجاه تطوّره القادم. ولا شك أن المرحلة الليبرالية التي تثبّتت منذ منتصف القرن الماضي سيبقى تأثيرها حاضراً وفاعلاً في مسار التطور اللاحق. وفاعلية الاتجاه الليبرالي نابعة بشكل أساس من تميّزه مقارنة بالاتجاهات التي حكمت البنية الطبقية بشكل عام. فما هي خصوصيات هذا التأثير على الحركة الشعبية، وما هي ملامح التصدي للتّرِكَة الليبراليةّ؟

تميّز المرحلة الليبراالية

تختلف المرحلة الليبرالية عمّا قبلها من المراحل ضمن المجتمع الطبقي أنها مارست وبشكل مكثًف القمع الناعم والاستغلال المعقَّد. ليس جديداّ على القوى المسيطرة أن تمارس التضليل الإيديولوجي، عبر مؤسساتها المختلفة، ولكن المتميّز في المرحلة الليبرالية هو أن قسماً لا بأس به من الحاجات المعنوية- ولدى القسم الأكبر من القوى المقهورة- وجد تحققه الشكلي (الوهمي) ضمن علاقات الاستغلال الطبقي نفسها. لقد كان الفرد هو عنوان هذه المرحلة، وهذا بحد ذاته الفرق النوعي عن المراحل السابقة. لقد شكل الفرد محور العلاقات والدعاية والخطاب والممارسة... لقد شاركت الجماهير نفسها بعلاقة نفعيّة غير مباشرة من وجود الواقع القائم نفسه. وهذا بالتحديد يحمل وزناً مادياً لن ينزاح تلقائياً، بل هو يحتاج تدخلاً واعياً من القوى الفاعلة التغييرية التي انتبهت إلى هذه العلاقة النفعيّة، والتي تحررت نسبياً منها.

بين الجبريّة والذاتية

إن العقود الماضية قد أعادت نبش المدرسة الذاتية في فهم التاريخ، وأعطت الفرد الصدارة كلها في عملية الفعالية التاريخية، وفي الوقت ذاته حصرت فعاليّته في حدوده الذاتية الخاصة نفسها، أي: في نسخة «شاحبة» عن المدرسة الذاتية في التاريخ، تلك التي جعلت من التأثير الاجتماعي هدفاً لتدخل الفرد. ولكن نحن نفهم النسخة الجديدة أنها ترجمة لرغبة القوى المسيطرة في الحد من أي كلام عن تغيير جماعي يكون للفرد دور فيه. ومن هنا مثلاً تنبع كل الثقافة السائدة، والتيارات التي راجت في الممارسة خلال العقود الماضية، والتي عززت دور الفرد على حساب الجماعة، وهو ما رأيناه في التيارات السياسية واسعة الانتشار ذات الطابع الفوضوي. أو في المقولات التي نرى تعميمها على وسائل التواصل حول «التمكين» و«تعزيز القدرات». هذه التوجُّهات التي قامت حولها الجمعيات والتخصُّصات الدراسية ومشاريع التدريب، وحتى الرياضات كـ«التأمليّة» والتي تدخل ضمنها اليوغا التي راجت بشكل كبير. هذه الذاتية التي فجّرتها أحداث السنوات الملتهبة، والكارثة الاقتصادية، وما لحق بالنشاط الفردي من تقلص شديد، خصوصاً في ظل الجائحة.

إن التعطّل الذي أصاب الاتجاه الذاتي لا يجب أن ينعكس بشكل تلقائي تعزيزاً للاتجاه الجبري، أي: في تغييب المضمون الذاتي في عملية التغيير. وتتضمن الجبرية اليوم، تجاهل التركة الليبرالية نفسها، وعدم تفكيك كوابحها وعطالتها، باعتبار أن تجاوز هكذا عطالة تشارك فيها الجماهير نفسها، سيتم بشكل تلقائي، هو هو الجبريّة.

ملامح العطالة

إن أول ملامح العطالة هو: نكران الفرد للهزيمة التي لحقت بتصوّراته حول العالم، ومشروعه فيه، وموقعه الوهمي السابق. وهذا ما يتطلب بالضرورة حالة انتشال واعية، تنقل شعوره الخاص بالهزيمة إلى حالة لها تفسيرها الموضوعي في أزمة النظام نفسه، لا كهزيمة له شخصياً. وثاني ملامح العطالة هو: أن الأزمة التي أصابت الاتجاه «الحرّ» الذاتي في الممارسة والتفكير والشعور تُخلي نفسها لصالح منطق «الحرية تكون عبر الضرورة». فلا حرية للفرد إن لم يتحرك حسب القوانين الموضوعية. وهنا تبرز الصعوبة التاريخية الخاصة بهذه المرحلة: إن توسّع الاستغلال ليطال الجانب المعنوي في المرحلة الليبرالية كان قد أدخل قوانين الفرد الداخلية إلى مسرح المواجهة، بينما كان وعي الضرورة في القرن الماضي يتعلق بالجانب «الخارجي» الاقتصادي والاجتماعي. ولهذا، فإن وعي قوانين الفكر والبنية النفسية بحد ذاتها من قبل الفرد هو شرط من شروط تجاوز العطلة ومفاعيلها.

في تجاوز العطالة

حسناً، ولكن تفاعل المَلمَح الأول (الإنكار) مع المَلمَح الثاني (وعي قوانين الفكر والبنية النفسيّة) سينتج تناقضاً. فالإنكار سيشكل عائقاً أمام الغوص في عملية النقد الذاتي التاريخية. ومن هنا ضرورة اقتحام اتجاه خارجي (يفترض هنا وجوده سياسياً وفكرياً) ليشكل حالة حماية هوياتية وذهنية، من أجل تأمين عملية النقد التاريخية، وتحويلها من عملية فردية إلى عملية جماعية تزيل أي نوع من مشاعر النقص الخاصة عند الأفراد، وسعيها إلى التمسك بهوياتها مسبقة التشكّل. هذه المشاعر والمساعي التي تغذي مجمل تيارات التطرف على أشكالها الدينية والقومية والمناطقية والطائفية والعرقية والجندريّة... أي: إن العامل الخارجي الذي يجب أن يتدخّل هنا (المشروع السياسي البديل) سيؤمن أدوات النقد، ولكن ما هو أهم، سيؤمن ملامح الهوية النقيضة (الوطنية- الأممية- الإنسانية- الممارسيّة) التي ستحمي الفرد من مشاعر الوجود عارياً دون هوية يعرّف نفسه بها. وهذه الهوية يجب وبالضرورة أن تتضمّن أدواراً اجتماعية جديدة تنقذ الفرد من فراغه الممارسي، وسيملأ بالضرورة فراغه المعنوي الهويّاتي.

هذه المساعدة الضرورية لا يمكن لها إلّا أن تتمّ من على منصة معرفية عالية، ولا يمكن أن توجد لدى الأفراد بشكل تلقائي. ويبدو أنها يجب أن تكون عنصراً عضوياً من البرنامج، وليس عنصراً مضافاً فقط. وهذا يدعمه ملمح آخر من ملامح العطالة لم نمر عليه أعلاه.

إن المجتمعات العالمية، وعلى الرغم من الكارثة الاقتصادية- الصحية- السياسية الشاملة، التي تضربها، وهو ما يُنتج تعطلاً في نمط الحياة السابق، ولكن لا يبدو أن توازناً بشرياً كمياً عالمياً لم تُطرح عليه المسألة بهذا الوضوح النظري بما خصّ تعطُّل نمطها. هذه الكتلة سوف تبقى إلى حد ما تمارس وجودها المتناقض في علاقتها «الابتزازية» مع العلاقات الرأسمالية الليبرالية، حيث إنها ما زالت تملك فيها هوامش ما. لا نعتبر هذه العلاقة مطلقة زمنياً، ولكنها ستصمد في دول أكثر من دول أخرى. ولأن هذه العلاقة مأزومة في جوهرها، أي: إن الأفراد يعانون من عدم تحققهم الوجودي في ظل الليبرالي، فإنه هناك إمكانية لتحويل هذا الوجود «المتناقض» إلى قاعدة سياسية نوعية تقدمية. ولكنها وفي ظل الظروف الحالية للممارسة السياسية عالمياً، فإن عدم تبلورها سوف يؤخّر الانتقالات الثورية في البُنيات التي تفجّر فيها النمط «الليبرالي» بشكل واسع.

ولهذا نعيد القول: إن حضور هذه «المساعدة» في البرنامج الثوري لها وجهتان: داخلية تطال القوى الاجتماعية التي كانت تنطلق من منصة ذاتية تمّت تصفيتها بحكم الظروف المنفجرة لبلادنا بالتحديد. وهذا يتضمن بالضرورة مجمل الحاجات المعنوية والأزمة الهوياتية والعلاقة بمعنى الحياة ككل. ولها وجهة خارجية (أمميّة) تطال القوى الاجتماعية التي لها مصلحة في أن تتلقى هكذا طروحات، مما قد يبني صلات مع هذه القوى من أجل التحصين الخارجي للمشروع السياسي، وكمدخل لتمرير الطرح السياسي المباشر نفسه عبر هذه الطروحات التي لا يبدو أن أغلب القوى الثورية في العالم تعمل على تقديمها. هذه الطروحات هي جوهر الاشتراكية في هذه المرحلة، كونها تتطلب تغييراً في علاقات الإنتاج والوجود الاجتماعي للأفراد على مستوى الأدوار والعلاقة بعملية الإنتاج، وتفعيل المشاركة السياسية المباشرة للأفراد، وليس فقط رفعاً في مستوى المعيشة المادية.

إن خلاصة ما تحاول هذه المادة قوله هو: أن عملية تجاوز التركة الليبرالية لن تتم تلقائياً وجبرياً، خصوصاً أن الانتقال اليوم هو أعقد مما كان في المراحل الثورية السابقة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
998
آخر تعديل على الإثنين, 28 كانون1/ديسمبر 2020 04:36