«الحب الأول» لتورغنيف: الغرام مسألة سيكولوجية

«الحب الأول» لتورغنيف: الغرام مسألة سيكولوجية

لم تكن له حدة غوغول، ولا قوة تولستوي، ولا رؤيوية دوستويفسكي ولا عمق تشيكوف. ومع هذا ظل الكاتب الروسي ايفان تورغنيف لفترة طويلة من الزمن، أكثر شهرة في الغرب من مواطنيه هؤلاء. فهو، إن لم يكن متميزاً عن أي منهم في مجال خاص، عرف كيف يجمع في بوتقة واحدة بعض ميزات كل واحد منهم. فكان فريداً في كتابته، عاش للرواية وللقصة. وكتب عن الحياة الروسية، ربما اكثر مما كتب أي روسي آخر. ومع هذا كانت تهمته الأساسية في بلاده نزعته الغربية. اما الغربيون، والانكليز والفرنسيون منهم على وجه الخصوص، فأحبوه وقرأوه على نطاق واسع، لأنه عاش بينهم وتعرّف الى كبار أدبائهم، ونقل روائع أدبهم الى الروسية. كما انه هو، لفترة طويلة من الزمن، كان من نقل بوشكين وغوغول وليرمنتوف الى الفرنسية. لقد جعل تورغنيف من نفسه، ولفترة حاسمة في تاريخ العلاقات الأدبية بين روسيا والغرب الأوروبي، ضابط ارتباط تلك العلاقة. ولا بد من ان نضيف هنا ان ما ساهم ايضاً في «عالميته» المبكرة انه عاش جزءاً كبيراً من سنوات حياته، في أوروبا، بين بادن بادن وباريس، لا سيما في باريس التي مات فيها ودفن في العام 1883.

ولنضف أيضاً ان ما قاده للعيش في الغرب لم يكن شيئاً آخر غير الحب: فهو منذ شبابه أُولع بالمغنية بولين غارسيا فياردو، وصارت حبيبته وملهمته فأخذ يتبعها حيث تذهب وتعيش، ليعيش، هو، غير بعيد منها. لكن هيامه بها ظل أفلاطونياً، معذّباً له، من دون أمل... مع انه دام أربعين عاماً. وهو عندما مات في ضاحية بوجيفال غير بعيد من باريس، مات في منزل صغير كان يبنى له ولم يكتمل بناؤه، ويقع على بعد 50 متراً من منزل آل فياردو، عائلة حبيبته.

إذاً، اذا كان ايفان تورغنيف عاش كل هذا الحب الغريب طوال أربعين عاماً، لفاتنة واحدة، كيف تراه جلس ذات يوم، في العام 1860، وهو في عز غرامه ببولين، ليكتب رائعته، الرواية القصيرة «الحب الأول» التي ليست في حقيقتها سوى رواية ضد الحب؟ قبل تلك الرواية القصيرة التي كتبها تورغنيف في فرنسا، كان هذا الكاتب نشر عشرات الاعمال، الروائية والقصصية والمسرحية. كما نشر الكثير من الأشعار... وكانت أعماله الكبرى مثل «عش النبلاء» و «آباء وأبناء» و «مياه ربيعية» لا تزال أمامه لكي تصنع له لاحقاً مجداً كبيراً في بلاده، كما في الغرب الذي اختار ان يعيش فيه. وكان قطاع كبير من القراء الفرنسيين، يشعر انه مدين لتورغنيف بتعرّفه إلى الحياة الروسية من خلال أعماله الكبيرة تلك، وأيضاً إلى الأدب الروسي من خلال ترجماته لذلك الأدب. ومن هنا، فإن صدمة قراء تورغنيف كانت كبيرة حين صدرت «الحب الأول» حاملة كل ذلك الموقف الغاضب من الحب. خصوصاً ان الصراع الأساسي في الرواية، لم يكن بين المحب ومحبوبته، بل بين المحب وأبيه، ما أعاد الى الأذهان فوراً بعض قصصه السابقة، ومهّد على أي حال لصدور رائعته «آباء وأبناء» بعد ذلك بسنتين (1862) وفيها نوع من الاستطراد في وصف ذلك الصراع ناقلاً اياه من مجال فردي يدور من حول الحب، الى مجال جماعي يدور من حول أواليات عمل المجتمع. وفي هذا الاطار، لا بد من أن نذكر ان كثراً من دارسي عمل تورغنيف والمتحمسين له، ينصحون دائماً بقراءة «الحب الأول» و «آباء وأبناء» معاً للمقارنة، وربما للاستطراد أيضاً.

المهم في الأمر ان ايفان تورغنيف كتب «الحب الأول» في وقت كان يعيش فيه ذروة هيامه بفاتنته بولين. فماذا قال في هذه الحكاية؟ في الحكاية، يطالعنا الفتى المراهق فلاديمير الذي، إذ يمضي اجازته الصيفية في منطقة ريفية، يقع من فوره في غرام الفاتنة الحسناء زينايدي. وهذه الفاتنة كانت في ذلك الحين أجمل بنات المنطقة... وكانت مدركة كم تملك من جمال وفتنة. لذلك راحت تجمع من حولها المعجبين والعشاق، تذلّهم، رافعة اياهم خافضة اياهم على هواها، ومن دون ان يرف لها جفن. فهي، في نهاية الأمر، لعوب ماكرة... هوايتها ان يجتمع المعجبون في دارها يبثون لها أشواقهم وحبّهم، ثم تسخر هي منهم بجعلهم يقترفون الحماقات المضحكة ما يسري عنها. وفلاديمير لا يكون استثناء بالنسبة اليها. فهو ما إن يقع في هواها، حتى ينضم الى فرقة المتحلقين من حولها صاغراً راضياً... وإن كنا نشعر منذ البداية بأن حبه لها صادق، على عكس حب الآخرين الذي هو مزيج من الاشتهاء والإعجاب والرغبة في غزوة ترضي غرورهم. لكن المشكلة الجديدة التي ستواجه الشاب الهائم، لن تأتي من أولئك الشبان... بل من حيث لم يكن ليتوقع أبداً: من لدن أبيه. فالأب شاب وسيم مهيب الطلعة ذو شخصية استثنائية، وأرستقراطي الأخلاق لا يمكن أي امرأة ان تقاوم إغواءه. وإذ تلتقي زينايدي بوالد فلاديمير تقع على الفور في هواه، وتكتشف انه لا يمكن ان يكون مثل الآخرين ألعوبة بين يديها. ولا يلبث فلاديمير ان يكتشف سر الهوى الذي يولد بين أبيه وزينايدي، ذلك ان الاثنين يضربان لبعضهما بعضاً موعداً في الحديقة ليلاً، وإذ يتسلل فلاديمير، وقد عرف بأمر الموعد، الى الحديقة، يكتشف ان اباه وفاتنته قد هاما ببعضهما. وهكذا يقع الفتى صريع اليأس إذ يعرف الحقيقة، ويعود أدراجه وقد خيّل اليه انه مائت لا محالة لفرط ما به من جنون الحب وألم الخيبة.

لكن الأيام سرعان ما تمضي سريعة، ويحدث لفلاديمير أن يبرأ من مرض الحب، يساعده على ذلك ان موسم الدراسة قد عاد، وعاد هو ليلتقي بأصحابه. وهكذا يزول السحر عنه، ويشعر ان حكاية «الحب الأول» هذه قد مضت بأقل قدر ممكن من الخسائر، ولكن بالنسبة اليه لا بالنسبة الى العاشقين. ذلك انه إذ تنتهي حكاية فلاديمير على تلك الشاكلة، يكون مصير الأب وزينايدي مأسوياً، إذ سرعان ما يقضي الأب صريع داء سريع حلّ به، تاركاً لابنه رسالة ينصحه فيها بألا يقع في الغرام أبداً. أما زينايدي التي كانت في تلك الأثناء قد تزوجت، فإنها بدورها تموت وهي تضع طفلها الأول... وهكذا فقط تنتهي الحكاية، بهذا الشكل المأسوي.

لقد اعتبرت قصته «الحب الأول» دائماً، أكثر قصص تورغنيف سوداوية. إذ ها هو يصور الحب في جانبه الأكثر مأسوية، يصوره بصفته مرضاً لا أكثر، يصوره بصفته فوضى في الروح تضرب البشر بطرق مختلفة، وعليهم تفاديها بأي حال من الأحوال. وذلك ما تقوله على أي حال رسالة الوالد الى فلاديمير، وهي رسالة من الواضح ان تورغنيف شديد التعاطف معها. وتورغنيف في طريقه هنا، وفي تفاصيل القصة «يدرس مرض الحب بتفاصيله السيكولوجية» كما يدرس أي طبيب مرضاً حقيقياً. وهذا ما خفف من شأن الصراع الاخلاقي بين الأب وابنه، وهو صراع تركه تورغنيف على أي حال في عهدة روايته المقبلة «آباء وأبناء».

حين كتب ايفان تورغنيف «الحب الأول» كان في الثانية والأربعين من عمره كما كان في أوج حكاية غرامه مع بولين، وفي أوج مجده الأدبي. فهو ولد العام 1818 في منطقة الاورال وسط روسيا. وقد درس في جامعات موسكو وسان بطرسبورغ. وبدأ حياته الأدبية بنشر الأشعار في العام 1838، ثم توجه ليكمل دراسته في برلين. وإذ عاد الى روسيا ليخدم في الدولة، بدلاً من الجندية، عاد منذ العام 1845 ليكرّس وقته وحياته للأدب، وكانت تلك هي الفترة التي بدأت فيها حكاية حبه الدائم لبولين. ومنذ ذلك الحين راحت حياته تتوزع بين الحب والكتابة والترجمة. وراح هو يتوزع جغرافياً بين روسيا وألمانيا وفرنسا. أما عمله الأدبي المهم الأول فكان «ملاحظات صياد» (1847-1851) وبعده راحت أعماله تتتابع، حتى وصوله ذروة الشهرة مع «آباء وأبناء» (1862)... وهو كان أول كاتب روسي كبير يعرف المجد في الغرب خلال حياته. وقد سبب له هذا صراعات حادة مع القوميين المتطرفين في روسيا... ولذا آثر ان يكمل حياته في الغرب حيث مات العام 1883، بعد مسار أدبي كبير.

 

المصدر: الحياة

آخر تعديل على الثلاثاء, 18 آذار/مارس 2014 23:27