المصائر التاريخية للإصلاحية والفوضوية:  إما اشتراكية أو رجعية على المكشوف!

المصائر التاريخية للإصلاحية والفوضوية: إما اشتراكية أو رجعية على المكشوف!

إن الصراع السياسي على شكل تيارات سياسية متبلورة لها هويتها وطرحها وبرامجها وشعاراتها- والمتُصاعد في العقد الأخير- يشكٍّل مرحلةً فتيّة بالمعنى التاريخي مقارنة بحياة المجتمعات والدول والمراحل الإنتقالية التاريخية بشكل عام. هذه المرحلة التي أطلّت بعد خبوت طال التيار الثوري عالمياً لمدى عقود، وقبلها تراجعاً لعقود أخرى أيضاً. ولكنها عودة تحمل معها جديداً، هو: نتاج هذه العقود بالذات، واقتصادها السياسي الذي حكم المجتمعات، وشروط وجودها المادي ومصالحها، وعلاقاتها وقيمها، وبناها العقلية والنفسية. وهذا الجديد حكم تلك العودة، وملامح التيارات «العائدة» إلى ساحة العمل السياسي، وإن عبَّرت عن نفسها بتنظيمات وأسماء «جديدة». 

نقاش قديم- جديد

لا بد من استكمال النقاش حول هذه التيارات من أجل تحديد ساحة الاشتباك وإحداثياتها، ليس مع الخصم الواضح البدهي، بل في قلب المعسكر «الثوري» بذاته. فالنقد العميق (المادي التاريخي) ضروري، فكما يقول ستالين في ردّه على من يستسهل اعتبار هذا النقاش يبعث على السأم، كون هذه التيارات لا تستحق عناء الحديث عنها: «نحن نعتقد أن نقداً رخيصاً كهذا هو شيء تافه ولا فائدة منه».

الفروقات الطبقية
كقاعدة للتيارات المتمايزة

إنه ولا شك كان لينين، ومن قبله ماركس وانجلز، خلال خوضهما المعركة السياسية والتنظيمية، كانوا قد أظهروا ليس فقط التفارق ما بين التيارات الليبرالية أو البورجوازية، بل أيضا التفارق ما بين التيارات الاشتراكية حاملة لواء الثورة. وخيضت معركة توحيد الطبقات التي لها المصلحة في عملية التغيير من خلال معركة داخل معسكر قوى الثورة نفسه. وبالإجمال، كثّف لينين الصراع هذا بتيارات عامة ثلاثة: الإصلاحية- الانتهازية، الفوضوية، والماركسية.

وخلف هذه التيارات الثلاثة تكمن شرائح اجتماعية متمايزة عن بعضها البعض. في كتابه «مرض اليسارية الطفولي في الشيوعية» يعتبر لينين أن البلشفية صلُب عودها وتمرّست ضد الإصلاحية- الانتهازية من جهة، ومن جهة أخرى ضد الفوضوية، و”كلا هذين التّشويشين مكملان لبضعهما». فالفوضوية هي رد فعل على الإحباط الذي تتركه الأخطاء الإنتهازية في الحركة العمالية. وإذا كانت الانتهازية هي تعبير عن النهج الإصلاحي الطبقي «النقابوي» ضمن الحركة في مرحلة تظهر فيها إمكانية عملية لـ «التوفيق» بين مصالح البورجوازية- البورجوازية الصغيرة- البروليتاريا، كالمراحل «الهادئة» طبقياً، فإن الفوضوية تتقدم في مرحلة تكون فيها الفئات البورجوازية الصغيرة تحديداً في حالة انحدار طبقي بشكل سريع وحادّ، في مراحل «حامية» طبقياً، فتُظهر «انزعاجها» من الوضع الجديد منتقلة إلى «الثورة المتطرّفة». هذه الفئة واسعة الوجود في الدول الرأسمالية. وحسب لينين، فإن الفوضوية تُظهر عدم الثبات والعقم، وشغفها المحموم بالموضة السياسية التي تروج لها بعض تيارات البورجوازية، وعدم القدرة على الثبات والصمود والانتظام والانضباط.

المصائر التاريخية لهذه التيارات

لقد لقي انتعاش الإصلاحية الانتهازية في أواخر القرنين التاسع عشر وأوائل العشرين دعماً من تحوّل مادي موضوعي، هو الرشوة التي طالت العمال في المراكز الرأسمالية، فنشأت ارستقراطية العمال. ما شكل رافعة للتيارات الاشتراكية الديمقراطية المساومة، والتي وافقت في اللحظات الحاسمة ليس فقط على خيانة الثورة، بل على خيانة الوطن في لحظات الحروب والصراعات بين الدول. بينما كانت تتقدم الفوضوية في لحظات الأزمات العميقة التي تعصف بالمجتمع. ورأى ستالين في كتيّبه «الماركسية والفوضوية»، إن التيار الإصلاحي هو في تراجع وتحلّل يوماً بعد يوم، بحكم تصاعد الفرز والاستقطاب الطبقي الاجتماعي في المجتمع الرأسمالي، وخصوصاً في تموضعه الواضح في موقع البورجوازية، فإن الفوضوية تحتاج إلى تحليل عميق لمذهبها، كونها تتبلس لبوس الناطق باسم الثورة رافعة لواء الاشتراكية، فـ «نحن نعتقد أن الفوضويين هم أعداء حقيقيون للماركسية». ولكن منذ أيام لينين وستالين شهد العالم تحولات جديدة تفرض نفسها على هذين التيارين (الفوضوية والإصلاحية الانتهازية) ولا بد أن يتم البحث في مصائر هذين التيارين، فهما يشكلان قاعدة المشهد الذي تحتل التيارات «الثورية» جزءاً بارزاً فيه، في العالم، وفي دولنا «الأكثر حماوة» خاصة.

الرشوة التاريخية العالمية وانتهاء مفاعيلها

لم تكن الرشوة باتجاه دول الرفاهية الاجتماعية في منتصف القرن الماضي شيئاً بسيطاً على مستوى التحول في شروط الحياة وعلاقات المجتمع، وبالتالي على الأمزجة والاتجاهات الفكرية. فالشروط التي اعتبرها لينين طابعاً عاماً في الدول الرأسمالية المركزية، تم تعميمها على العالم أجمع، في شكل الليبرالية الجديدة التي ضمت أغلب البشرية في نمط حياتها وممارستها وقيمها. فكان ولا بد وأن تنتعش الإصلاحية عالمياً في منتصف القرن الماضي، وهو ما ظهر مكثفاً في مساومة غالبية التيارات الثورية عالمياً ومجمل الجسم النقابي، ولكن والأهم، هو مساومة ضمنيّة على المستوى الجماهيري بين الطبقة العاملة والواقع الرأسمالي، من خلال تبني الأوهام الليبرالية في السير في مسار الفردانية، سعياً نحو التحقق في ظل الرأسمالية، وهو ما حول التيار الإصلاحي إلى تيار اجتماعي ارتضى «التعايش» أقله على المستوى الإيديولوجي الذهني مع الرأسمالية على مدى عقود، وصولاً إلى أعوام القرن الحادي والعشرين الأولى، حتى أطلّت الأزمة الرأسمالية برأسها، فانهار الواقع «الوهمي»، وصار لزاما على القوى الاجتماعية جميعها أن تتخذ موقفاً.

مصائر الإصلاحية والفوضوية

على ضوء انتهاء مفاعيل الرشوة التاريخية، انطلاقاً من حدة الأزمة النهائية للرأسمالية، فإن التيار الإصلاحي سقط إلى غير رجعة، لكونه لم يعد قابلاً للتحقّق في شروط عدم قدرة الرأسمالية على إعادة إنتاج نفسها بالمعنى السابق.
هذا التيار الإصلاحي الانتهازي العقيم لا يزال اليوم بارزاً، ليس فقط على مستوى التنظيمات السياسية «الحزبية»، بل على مستوى دول بأكملها اعتادت تاريخيا فكرة التعايش «السلمي» إلى حد ما مع الرأسمالية، ومنها أنظمتنا التابعة بغالبيتها. وهي مارست سلوك القوى الانتهازية تاريخياً كما أثبت لينين في انتقالها الصريح والوقح اليوم إلى حضن الإمبريالية، في عداء مع مصالح الأغلبية من شعوبها. إن ضيق هوامش الإصلاحية إلى حد الصفر، نابع من ضيق هوامش «الهدوء» الرأسمالي إلى حد الصفر أيضاً. وما كان من هامش الإصلاحية إلا أن أعار نفسه إلى الاتجاه الفوضوي. فلا تكاد دولة من الدول إلاّ وتحفل بمظاهر الاتجاه المتطرف «ثورياً» في المركز كما في الأطراف. وما مظاهر «ثوار الفوضى» عندنا إلا دليل فاقع. التيار الفوضوي هذا كما أشار إليه لينين بأنه لا بحسب حساب ميزان القوى الطبقي مادياً، ويميّزه سلوك مغامر قاتل للحركة. هكذا حصل في سورية لدى تيار بورجوازي صغير شكلت رافعته فئات بورجوازية صغيرة على مستوى المزاج والتركيبة الذهنية، والتي للمفارقة عاشت الأزمة في حانات بيروت، ولاحقاً في حانات أوروبا، ارتزاقاً ونفعية. وهذا ما رأيناه في «انتفاضة 17 تشرين» في لبنان، وقبلها في عدة محطات، حيث تم الدفع نحو المغالاة في التطرف، على مستوى الشعارات السياسية والممارسة كذلك. وكلها يقبع فيها حسب ستالين: «كل شيء من أجل الفرد». هكذا هي مثلاً أغلب محركات شعارات المجموعات اليوم في لبنان، عبر تقديم قضايا فردية الطابع على حساب جماعية الطرح كقاعدة لتحرر الفرد. وهكذا هي شعاراتها السياسية وفي جوهرها فكرة الـ «لا حوار». وهم في ممارستهم معادون للمنهج الجدلي كما أكد ستالين.

التقاء مسارات ضروري

ليس التيار الإصلاحي هو فقط من انتقل (موضوعياً أو إرادياً) إلى حضن الإمبريالية اليوم في لحظة أزمتها الكبرى، بل ان التيار الفوضوي يلاقيه أيضاً في الانتقال. فضيق هوامش الإصلاحية وتسارع وشدة الدمار الاجتماعي، وتصاعد الفردانية طوال عقود، وسّع من هوامش الفوضوية، ولكن في التقاء مع السياسة العامة للمركز الغربي في تفجير الفوضى والتفكيك. لا بل إن شدة وتعقيد الصراع وضرورة حل القضايا بشكل متزامن وبشكل يطرح قضية نمط إنتاج جديد، يفرض ضيق هوامش كلا التيارين أساساً. ويتأكد اليوم بالملموس عالميا الشعار اللينيني «إما اشتراكية (ماركسية) أو رجعية على المكشوف».

معلومات إضافية

العدد رقم:
995