الأغنية الشعبية وأسئلة الأصالة
قبل سنوات ذَهبت عائلتي في زيارة إلى مصّر، وكنت حينها لا أزال مراهقة مولعّة بالفنان محمد منير. وعلى اعتبار أنني كنت في زيارتي تلك أقترب خطوة منه، ومن البلاد الذي لطالما غنّى لها، أخذت معي مسجّلة صغيرة وبضعة شرائط كاسيت له أعدت سماعها طوال الرحلة.
-1-
في القاهرة، شاءت الظروف بأن تتعرف عائلتي برجلٍ مصري قدم من إحدى قرى مصر واستقرّ في القاهرة، الرجل لاحظ تعلقي بشرائط منيّر وعلّق ذات يومٍ قائلاً: «جدتي من النوبة بكت حينما سمعت منير يغني بعض الأغاني من التراث النوبي، فالأغنيّات جزءٌ من تراث منطقتها، هي أغنيّات ظلت منسيّة حتى أدّاها منير مصوّرةً، لكنها وبصورة أو أخرى لم تعد ذات الأغاني التي تربّت عليها». لم أشأ في حينها التوقّف عند ملاحظة الرجل؛ إن كانت جدته بكت لما رأته تشويهاً للتراث أو استغلالاً له، فأنا وألوف المستمعين استمتعنا باكتشاف ألحانٍ جديدة.
في المرة الثانية التي التقيناه فيها، جلب الرجل لي هدية، وكانت عبارة عن شريط كاسيت لمغنٍ نوبي مغمّور لم يحصد أي نوعٍ من الشهرة خارج مصر. واقترح عليّ سماع الشريط كي أتعرف على الموسيقى الحقيقية للمنطقة. مدفوعةً بغرور المراهقين وعنادهم، تجاهلت الكاسيت، أو ربما أكون سمعت بضع أغنياتٍ منه. بدّت ألحانه نيئّة (غير مطهوّة) لم يكن سماعها سهلاً، ولا حتى تذّكرها. مقابل أغاني منيّر التي بدت مألوفةً ومنعشة حتى وإن تحدّثت بلغة لا أفهمها.
مرّت سنوات قبل أن أعيد التفكير في ذلك الكاسيت المرمي في إحدى خزائن المنزّل وألوم نفسي على تجاهله. ذكرتني به نقاشات معقّدة تُطرّح بكثرة اليوم حول الموقف من إعادة تقديم الأغاني التراثية القديمة داخل سورية وخارجها. فالتنقيب الكثيف في الموروث الموسيقي والألحان القديمة قد يكون إحدى سمات الإنتاج الموسيقي العربي المعاصر.
صلة الوصل مع الإرث الموسيقي
يجادل المتحمسون للتجارب الموسيقية الجديدة التي تعيد إنتاج الأغاني التراثية أو القديمة بالقول: إن الإرث الموسيقي أشبه بجبلٍ ضخم لا نهائي من الألحان، والجيل الجديد ملول، وقليل الصبر، لم يدّرب ملكات الاستماع والبحث، فهو لا يعرف من أين يبدأ. وبالتالي، كثيراً ما تلعب هذه التجارب دور صلة الوصل مع المنتج الأصلي الذي لم يسبق للجيل الشاب أن سمعه. ولهذا تحديداً تتكرر كلمة «إحياء»، كما لو أن هذه الأغنيات كانت منسيّة، ومُهملة حتى جاء من ينفض الغبار عنها. ويكمل هؤلاء فكرتهم بالقول: إن الجمهور يستطيع، إذا ما امتلك الرغبة، والاهتمام أن يعود ليبحث عن القطعة الأصلية أو عن نسخ قديمة متداولة. ويشير أنصار التجارب الموسيقية الجديدة إلى كون الموسيقى منتجاً حياً ومتبدّلاً، فلا ضيّر من وجهة نظرهم أن توضع الألحان القديمة في قوالب جديدة، ويتم تسريع إيقاعاتها بما يلائم إيقاع حياتنا.
حَلْب الموروث بحجة إحيائه
يطرح بعض النقّاد الموسيقيين المهتمين بالموسيقى السورية أسئلة جوهرية تتعلق بالإنتاجات الجديدة للأغاني التراثية، أولها: يرتبط بحجم هذه الاستعادات من كتلة ما يتم إنتاجه عموماً، ويقولون بإن نسبة ما يتم خلقه كأعمال فنية جديدة لا يقارن بحجم النسخ التي تعيد تقديم الإرث الموسيقي القديم. في حين أن الأعمال الجديدة تأتي أيضاً ضعيفة وسرعان ما ينساها الجمهور. هذا وتتم الإشارة أيضاً إلى أن الاستثمار في أغانٍ قديمة رائجة ومحببة هو عملٌ مجدٍ من الناحية المهنية أو حتى الاقتصادية، لأن الموسيقيين الجدد وشركات الإنتاج لا يصطدمون بقيّود حقوق المُلكية الفكرية المرتبطة باللحن أو الكلمات. والأهم من ذلك: أنهم يستندون في نجاحهم وشعبيتهم على أغانٍ أثبتت نجاحها ورواجها عبر الزمن.
من زاوية أخرى، يجادل المنتقدون لهذا النوع من الأعمال الفنيّة بأن قلة منها أضاف شيئاً من حيث القيمة الموسيقية للنسخ القديمة السابقة. يؤكد هؤلاء بأن الأعمال الجديدة تتلاعب أحياناً بالإيقاعات، أو تقدّم توزيعات جديدة تجعل الألحان مستساغة أكثر لجيل المستمعين الشباب. وبالتالي، يندر أن تكون هناك دراسة فعليّة معمّقة تفكك هذه الألحان وتُحللها وتهضمها، ومن ثم تعيد تقديمها أو توظيف أجزاء منها ضمن إنتاجات موسيقية جديدة. فما يحصل حقاً هو تناقص قيمة هذه الإنتاجات الفنية مع كل استعادة جديدة بدّل تعظمها. وفي الختام، يشير البعض إلى أن هناك خطوات أساسية وأوليّة ينبغي القيام بها قبل التفكير بإعادة إنتاج ما سبق إنتاجه، أولها: بذل جهود جادة لتوثيق الإرث الموسيقي الشفهي المتناقل كما هو قبل تعديله أو المساس به، من حيث مقاماته والآلات المستخدمة في تقديمه وإيقاعاته وتوزيعاته، هذا إلى جانب فهم السياق المرتبط به، وعلاقة المُنتَج بالمجتمع الذي أنتجه، ومعانيه السياسية والثقافية.
إذ كثيراً ما يتم تجاوز هذه الخطوة والقفز مباشرة للاجتهادات في إعادة تقديم المنتج الفني، مع استغلال حقيقة أن الجمهور غير المتعمّق أو المطّلع موسيقياً قد لا يتمكن من تمييز أن ما يرّوج له على اعتباره «رؤية جديدة للموروث الموسيقي» قد لا يتجاوز في أحيانٍ كثيرة تنفيذ بضعة حيل، أو رش بعض البهارات الموسيقية، التي لا تمس سوى قشرة القشرة من النسخ الأصلية.
كاسيت منسي في الخزانة
اليوم، وبعد سنوات من الزيارة لمصر، أشعر بأنني بت أكثر قرباً من التسجيلات سيئة الحظ المحبوسة ضمن كاسيت منسي في خزانة. بت أفهم بصورة أكبر لماذا بكت تلك الجدّة وما الذي أحزنها. في المحصلة أنا كنت، وربما أزال، أنتمي لجيل المستمعين الكسولين، الذين احتاجوا رش البهارات لهضم التراث، وبالتالي، لا أستطيع أن أنكر بأن بعض تلك التجارب عرّفتني بما كنت أجهله، وأنني كنت سابقاً آخذ موقفاً متعالياً من التراث، لأنني ببساطة لم أستطع فهمه، أو تذوّقه كما هو. وكان لبعض التجارب الحديثة فضلٌ في كسر ذلك الحاجز. لكن في المقابل، بت أدرك أيضاً خطورة الطريقة التي يتم التعاطي فيها مع الإرث الموسيقي، وكم التشوّه الذي يلحق به من موسيقيين يستعجلون الطريق نحو الشهرة، ولا يريدون بدورهم بذل الجهد لخلق ما هو جديد. يفعل هؤلاء ما يفعلون تحت عنوان «دعم التراث» وهو في الحقيقة الذي يدعمهم.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 994