رواية الأفغاني عتيق رحيمي تسكنها «لعنة» دوستويفسكي
هيفاء بيطار هيفاء بيطار

رواية الأفغاني عتيق رحيمي تسكنها «لعنة» دوستويفسكي

رواية الأفغاني عتيق رحيمي تسكنها «لعنة» دوستويفسكي

 

 

 

كم من بشر تحاكي حياتهم حياة أبطال الروايات؟ هذه الفكرة غالباً ما تدور في بال القارئ وهو يتابع رواية عتيق رحيمي الجديدة «ملعون دوستويفسكي» (دال للنشر والتوزيع - ترجمة راغدة خوري). رسول، بطل الرواية، متأثر بشدة برواية «الجريمة والعقاب» لدوستويفسكي، أمّا أحداث الرواية فتنطلق من مشهد قتله المرابية العجوز، نانا عليا. هوى بالفأس على رأسها ورآها تسقط مضرجة بدمائها، إلّا أنه لم يفلح في سرقة نقودها وعلبة مجوهراتها، بعدما هرب بسبب سماعه ضجة ما. تنتاب رسول وهو يرتكب جريمته الأحاسيس نفسها التي انتابت راسكولنيكوف بطل «الجريمة والعقاب».

حياة رسول هي محاكاة لحياة راسكولنيكوف مع فارق واحد هو أنّ رسول يعيش في أفغانستان، البلد الذي يقول عنه عتيق رحيمي إنّ الجميع يقاتل فيه لكي يصبح غازياً، وحين يُقتل يتحول إلى شهيد.

قتل رسول المرابية والقوادة - نانا عليا - لأنها أذلّت حبيبته صوفيا، الفتاة الفقيرة التي تعيل أمها وأخاها بعد موت والدها. قتل رسول العجوز المرابية من أجل صوفيا، تماماً كما قتل راسكولنيكوف المرابية من أجل حبيبته سونيا.

لكنّ رسول يصعق عندما يكتشف أنّ أحداً لم ينتبه إلى جريمته. لم يرَ أحد جثة نانا عليا، ولم يرَ أحد آثار الدماء على السجادة. يُصاب بالذهول، أين اختفت الجثة؟ ومن سرق علبة المجوهرات والنقود؟ يشكّ رسول بامرأة أفغانية منقبة يُمكن أن تكون دخلت بيت نانا عليا، ولما رأتها مقتولة سرقت مجوهراتها وهربت.

يعانـي رســول مــن تأنيـب حادّ، يفكر في أن ينتحر كي يتخلّص مـــن عذاب ضميره، لكنّ الانتحار لا قيمة لـــه في بلد يعشق الموت كأفغانستان، وهـــو يقول في هذا السياق: «إنّ البلاد التي لا قيمة للحياة فيها، لا قيـــــمة للموت فيها أيضاً». لذا، يتراجع رسول عن فكرة الانتحار ويقـــرر أن يسلّم نفسه للعدالة، يريد أن يُحاكم نفسه على جريمة ارتكبها في بلد تسوده شريعة القتل: «اقتل كي تحيا، هذا هو مبدأ كل القتلة».

يختار الكاتب عتيق رحيمي «الجريمة» ليعرّي حقيقة ما يجري في أفغانستان، هذا البلد الذي غزاه المتطرفون....، ونجحوا في فرض الشريعة بسرعة خيالية. يتوجه رسول إلى المحكمة ويسلّم نفسه ويعترف بجريمته، ولكن ما من أحد يبالي به، لأنه لم تعد هناك محاكمات في أفغانستان، إضافة إلى أنّ قتل امرأة قوادة لا يعتبر جريمة، لأنها وفق الشريعة يجب أن تُرجم حتى الموت.

يظلّ رسول مصمماً على أن يُحاكم نفسه، فيجد نفسه يُستجوب ويُحاكم لأنه شيوعي، ولأنه يقرأ كتباً باللغة الروسية، وأي كتاب بالروسية يعني تبشيراً بالشيوعية، لكنه يدافع عن نفسه ويقول إنّ والده كان شيوعياً... ويفكر في أنّ قلّة من الأفغان تموت موتاً طبيعياً، أمّا البقيّة فهي تُقتل، «الكلّ يقتل الكلّ».

هكذا، يجد رسول نفسه محاطاً بالقتل من كلّ الجهات، القتل باسم الدين، الشرف، التقاليد... زعماء وقادة يشجعون الناس على الاقتتال والأخذ بالثأر، وعلى تغذية جذوة الحرب. كابول مدينة القتل والموت والجثث المرمية في الشوارع، والقنابل التي تسقط على البيوت، والصواريخ التي تدمر أحياء بكاملها، وتقتل المئات، والكل يحمل السلاح ويقاتل، وثمة من يتاجر بدماء شعب مسكين فقير يائس، يعتقد أنه إما أن يُقتل في الحرب أو يقتل بالحشيش والأفيون، لأنّ الحياة لا تُحتمل من دون تخدير للمشاعر والآلام.

يصرّ رسول على أن يُحاكم، على رغم عدم وجود أدلّة على جريمته، فلا وجود لأيّ جثة ولا أثر للدماء، بل وجد من يدافع عنه قائلاً: «إنّ جريمته مُتخيّلة، وإنه متأثر برواية الجريمة والعقاب لدوستويفسكي، وكان يتوق لأن يقتل المرابية لكنه لم يرتكب فعل القتل».

ومثلمـــا فعل في روايته الحـــائزة جــــائزة غــــونكور الفرنسية «حــجر الصبر»، يتركنا عتيق رحيمي معلقين بين الشكّ والاحتمالات: هل قتـــل رسول المرأة أم لم يقتلها؟ هل أقدم على قتل المرابية ليثبت لنفســـه أنّـــه قادر كالآخرين على القتل؟ لكنّ الكاتب يُفجّر من خلال هذا الشك تساؤلات عميقة ووجدانية، فإصرار رسول على أن يُحاكم هو إصرار مُبطن على وجوب محاكمة كل القَتَلة ومجرمي الحرب، أو ربما ضرورة محاكمة كل الأمة.

هل ارتكب رسول جريمة القتل أم لا؟ هذا السؤال سرعان ما يتلاشى أمام الحقائق المرعبة التي يكشفها رحيمي في روايته التي تتقاطع رواية بلغتها الجميلة وقيمتها الإنسانية والأدبية والفكرية مع رائعة دوستويفسكي «الجريمة والعقاب». فالكاتب نجح في روايته «ملعون دوستويفسكي» في أن يفجر في أعماقنا ألم الحياة المخزي الذي يحسّه رسول، والرغبة العارمة في تحقيق العدالة والعقاب والمحاكمة في بلد أصبحت فيه للشهداء وزارة! وكم يحتاج عالمنا العربي إلى قراءة هذه الرواية، لأنّ ما يحصل في عالمنا العربي يشبه إلى حد بعيد ما حدث ويحدث في أفغانستان.

 

المصدر: الحياة

آخر تعديل على الجمعة, 14 آذار/مارس 2014 18:56