خرائط الفوضى

خرائط الفوضى

كثيراً ما يصوّر فعل الهجرة كفعلٍ فردي؛ شخصٌ ما يحزم حقائبه، يودّع عائلته ورفاقه، يركب قارباً أو طائرة، يسافر، يصل، يبحث عن مكانٍ للسكن والعمل، يمزّق جواز سفره، يبدأ بإجراءات لم الشمل. والتفكير بالسفر والهجرة بهذا المعنى يعيق أحياناً عن رؤية المشهد الكلي لخرائط التنقّلات والحركة حول العالم.

فوفق بعض الإحصاءات المتداولة إعلامياً، تم اعتبار 258 مليون شخص مهاجرين دوليين عام 2017، أي: أن هؤلاء يقيمون خارج البلد الذي وُلدوا فيه. فلنقرأ الرقم مجدداً ونحاول الآن تخيّل المشهد من جديد؛ 285 مليون حقيبة يتم توظيبها، 285 مليون عائلة تودّع شخصاً عزيزاً، أقدام تذرع طرق السفر دون أن تجد مستقرها.
وبالرغم من ضخامة أعداد هؤلاء المهاجرين، والأماكن التي قدموا منها أو ذهبوا إليها، هم يهربون غالباً من أخطار مشابهة تهدد سلامتهم وحياتهم، أو من الفقر، ويحلمون بأماكن تؤمن لهم حاجاتهم الأساسية أو تضمن لهم تعليماً وحياة لائقة.

الضفّة الثانية
من فجوة الرفاهية

يستخدم الباحثون في مجالات دراسات الهجرة مصطلح «فجوة الرفاهية» للتعبير عن الهوة التي تفصل المكان الذي جاء منه المهاجرون، والمكان الذي يتوقون إليه. فالمهاجرون من أمريكا اللاتينية والقرن الإفريقي وبعض النقاط المشتعلة حول العالم ينطلقون في رحلاتهم تلك بحثاً عن «الرفاه» والرفاه هنا يتضمن مستويات متنوعة بتنوع حاجاتهم والكوابيس التي كانوا هاربين منها.
تشي الأعداد المرعبة من الناس الذين هاجروا، أو باتوا يفكرون في الهجرة بالاقتناع المتزايد بنهج «الفلسعة» أو الرحيل كأسلوبٍ نافع في حل المشكلات. لكن ذلك ينطوي على قدرٍ كبيرٍ من التبسيط، فإلقاء نظرة كلية على كوكب الأرض عام 2020 أمرٌ كافٍ لإدراك أن المشكلات تعولمت ووصلت إلى درجة عالية التعميم بات فيها من الصعب القول بأن هناك مكانٌ ما بمآمن من كل ما يحصل.

فليُعِد المرء من أجل فهم ما يحصل حقاً إعادة رسم خرائط الفوضى ومسبباتها؛ هناك قوى كبرى في العالم تعمد من أجل الحفاظ على هيمنتها ومصالحها إلى افتعال أزمات في بقاع مختلفة من العالم، ونهب مقدرات بلدان أخرى، وإفقارها. تنتج عن ذلك حروب وأزمات مستعصية تدفع بشرائح واسعة من سكان تلك البلدان للهجرة كمحاولة للنجاة. يواجه هؤلاء عند وصولهم إلى ما ظنوه شطآنهم الآمنة مشكلات جديدة؛ كالاغتراب والصدمات الثقافية ومواجهة موجات الكراهية والتعصب، وفقدان الشعور بالأمن نتيجة صورة المستقبل الغائم وغير المستقر، الذي قد يؤدي إلى ترحيلهم أو نبذهم أو التخلي عنهم في أية لحظة. في المقابل، تواجه المجتمعات المضيّفة بدورها صعوبات ومشكلات خاصة بها، فهؤلاء يشعرون بتهديد اقتصادي وثقافي من القادمين الجدد، خاصة وأن الأنظمة والقوى ذاتها التي خلقت المشكلات في بلدان العالم الثالث، هي ذاتها التي خلقت مشكلاتهم هم، وكانت المسؤولة عن إغراقهم في حياة مُرفّهة مختلقة ومن ثم تهديم أركانها من حولهم. حصل ذلك خلال الأزمة المالية العالمية عام 2008 ويحصل مجدداً اليوم عام 2020. لكن ورغم ذلك تنجح القوى هذه بتكريس القناعة بأن الخطر وغياب الأمن مردّه القادمون الجدد، المتخلفون، المتعصبون الذين جاؤوا لتخريب يوتوبيا أمريكا وأوروبا السعيدة.

«الحياة في مكانٍ آخر»

بعيداً عن مستوى الأفراد أو الجماعات الصغيرة، لا يمكن اعتماد الهجرة، أو «تغيير الأماكن» كإستراتيجية شاملة لحل المشكلات على صعيد مجتمعات أو بلدان بأكملها.
لنذهب في خيالاتنا الطفولية فنتصور مثلاً بأن الأزمات المُتجذرة في قارات إفريقيا وآسيا تدفع بسكانها لتبديل أماكنهم والانتقال جميعاً، كتلةً واحدة نحو أوروبا، أو أمريكا. ولنفترض جدلاً رغم خرافية هذا السيناريو بأن ذلك قد حصل حقاً، هل تبقى أمريكا وأوروبا هي ذاتها؟ حتى على صعيد الاسم؟ ألا يجب أن تسمى مثلاً أوروبا بعد أن ابتلعت آسيا؟

وعلى اعتبار أن «أوروبا» بهذا المعنى تمسي أقرب إلى حلمٍ مجرد حول مكان لم يعد موجوداً، يمكن للأوربيين مثلاً أن يفكروا يوماً ما بترك أرضهم والانتقال إلى إفريقيا لخلق «أوروبا جديدة» من الصفر. وبعد أن يهاجر الأوروبيون تاركين أرضهم للقادمين الجدد، سيكون هناك الآن فائضٌ في المساحة يسمح باستقبال وافدين أكثر فأكثر. ذلك سيخلق بعض البلبة بالطبع بين إفريقيا السابقة التي باتت أوروبا الجديدة لكن لا يهم.

والمثير في الأمر أيضاً، أن هناك بلداناً وبقاعاً من العالم تكون الوجهة الحلم بالنسبة لكثيرين لم يزوروها من قبل لكنها تكون بنظر سكانها الأصليين سجناً أو مكاناً لم يعد صالحاً للسكن. ففي الوقت الذي يحلم الكثيرون بأن تطأ أقدامهم أرض أمريكا، يبحث الأمريكيون عن بيوتٍ صالحة للسكن في كندا ويستكشفون معلومات حول كيفية الحصول على الجنسية الكندية. وكذلك الأمر على نطاقٍ أضيق فيما يتعلق بهجرة شريحة واسعة من السوريين الشباب إلى لبنان، في الوقت الذي يفكر فيه اللبنانيون أنفسهم بالهجرة أيضاً إلى بلاد الله الواسعة. وضمن السياق ذاته يسعى الكثير من السوريين مؤخراً إلى السفر إلى أربيل، وعلى الرغم من أنهم لا يفكرون بالاستقرار هناك، لكنها وكما يرددون أشبه بـ «نافذة» تفتح لهم مجال الهجرة إلى مكانٍ آخر. كما لو أن البحث عن هذا المكان الآخر هو رغبة بالبحث عن صورة الحياة كما يجب أن تكون.

لا يعني كل ما تقدم بأن المرء يجب أن يعيش حياته في بقعة واحدة منذ لحظة مولده وحتى موته، كي يجعل مشهد الخرائط العالمي أقل ازدحاماً، أو أنه يجب أن يتوقف عن الحلم بحياةٍ أفضل. لكن القصد بأن المشكلة لم تعد اليوم مشكلة مكان، رغم الاعتراف بأن هناك مناطق منكوبة وأخرى أوفر حظاً.
يمكن للواحد منا الاستمرار بتأمل خريطة كبيرة للعالم عُلقت على حائط، بحيث يضع علامات صغيرة، في الأماكن التي كان فيها، وعلامات أخرى في الأماكن التي يخطط للهرب إليها، ومن ثم إشارات أخرى لخطط بديلة للنجاة في حال اشتعال كل الأماكن السابقة. لكن الأجدر ربما أخذ نفس عميق والنظر للخريطة مرةً أخرى، ومن ثم القول: «يا لهذه الفوضى! هذا النظام الحالي في إدارة الكوكب ينبغي تغييره».

معلومات إضافية

العدد رقم:
986
آخر تعديل على الإثنين, 05 تشرين1/أكتوير 2020 17:48