روائح الموت الأنيقة
تشكل صناعة المظاهر أسس نمط الحياة الرأسمالي السائد، والتي تتخذ شكل سوق الموضة المتجدد، من الملابس إلى السيارات، والمنازل والأثاث... إن هذه القطاعات «الجمالية»، وبعيداً عن دورها الإيديولوجي التغيّري المتعلق بتثبيت المظهر كعامل أساس في الوجود الفردي، وتعريف الجمال، بعيداً عن عمق الأدوار الحقيقية المنتجة للفرد، فهو لا يبعتد عن الممارسات الإجرامية المباشرة للرأسمالية بحق الطبيعة والإنسان، فالوصول إلى حدود استنزاف لا عودة فيها، صار يفرض نفسه على هذه القطاعات أيضاً. وهذه المادة ستحاول الإضاءة على قطاع «أنيق» من هذه القطاعات، هو: صناعة مواد التجميل والعطور.
حجم القطاع
إنّ صناعة العطور قديمة قدم المجتمع البشري، وعرفت الحضارات القديمة بهذه الميزات، فاشتهرت الإمبراطورية الفارسية والمصرية والصينية والرومانية بإنتاج العطور ضمن الشعائر الدينية والممارسات الملكيّة وحتى العلمية- الطبية. أما اليوم فيُقدَّر حجم سوق صناعة العطور- والتي تدخل في العديد من المستحضرات التجميلية والنظافة الفردية، ومنها: العطورات الفردية في العام 2019- بحوالي 44 مليار دولار، وحوالي 45 مليار في العام 2020، ومن المتوقع أن يصل إلى ما بين 48 مليار و50 مليار في العام 2024، وهناك تقديرات تتوقع تصاعدها إلى 91 مليار في الـ 2025. وهذه الصناعة تضم صناعة أدوات التجميل والعناية بالجسم، كالشامبو، وهناك العطور الشخصية التي تشكل النسبة الأكبر من قطاع العطور، وتسيطر شركات معدودة كلاعب أساس على هذه الصناعة عالمياً، كـ: آيفون (Avon)، ناتورا كوزميتيك (Natura Cosmetics)، شانيل (Chanel)، وLVMH، ومجموعة لوريال (L’OREAL Group)، وبرادا (Prada)، وغوتشي (Gucci). وتشكل حصة أمريكا الشمالية الأكبر من هذا القطاع بحوالي 35%، بمردود قارب الـ 20 مليار دولار. وفي إحصاء طال الشركات الفرعية، تم تحديد 338 شركة أساسية في هذا المجال، 220 منها في أوروبا (65%)، 94 منها في الولايات المتحدة (27,81%)، 5 في اليابان (1,42%)، 5 في منطقة آسيا والهادئ باستثناء اليابان (1,42%)، 3 في كندا (0,7%)، 4 في الشرق الأوسط (1,8%)، 6 في أمريكا اللاتينية (1,6%)، وشركة واحدة في إفريقيا (0,25%). وهكذا، دون أن يتضمن التوصيف شيئاً جديداً، يستحوذ المركز الغربي على حوالي 93% من هذا القطاع.
نحو الإستدامة
بين الطبيعي والكيميائي
يدور النقاش منذ عقود، حول علاقة هذا القطاع باستنزاف الطبيعة من جهة، ومن جهة أخرى في إنتاجه للمواد الملوثة والمضرة بالصحة. وهذا تناقض موجود في أسس عملية الإنتاج الرأسمالي نفسها. فالاستخدام الواسع المدفوع بالربح للطبيعة، حتى في صناعة العطور، وصل في السنوات الماضية إلى حدود فرض النقاش حتى على أهل هذا القطاع بالتحول نحو الإنتاج المستدام!
فمن جهة، هناك استخدام المواد الصناعية الكيميائية التي «لا تطرح» الاستنزاف المباشر للموارد الطبيعة المستخدمة في إنتاج مركبات العطور، بينما تشكل في ذات الوقت مصدراً لتلويث الهواء والماء، والتسبب بالتسمم والأمراض التنفسية واضطراب الهورمونات والمواد المسرطنة والتلف العصبي. وتلعب دوراً أساساً في ذلك المواد التي تساعد على تثبيت الرائحة (الفثالات-Phthalates) والتي بدأ العالم يتحول عن استخدامها لخطورتها الصحية. فالصابون المعطر مثلا قد يضم 30 إلى 150 مكوناً عطرياً، بينما مواد التجميل قد تحوي حوالي 200 إلى 500 مكون عطري، وهناك ما بين 4000 إلى 7000 مركَّب كيميائي مُصنّع تستخدم في إنتاج أغلب المنتجات المعطّرة.
ومن جهة أخرى، هناك الإنتاج «الطبيعي» للعطور، عبر استنزاف الموارد الطبيعية كالنبات والحيوان، بشكل غير قابل للاستبدال، في تهديد مباشر للتنوع الطبيعي، والدفع نحو انقراض أنواع كائنات حية. وهنا تبرز بشاعة الطريق التي تسلكها صناعة العطور. فبعض المواد التي تشكل أسس المركبات الزيتية والمعطرة لا توجد إلّا في أنوع محددة من الأزهار والأشجار والنبات الأخرى، والحيوان. وإنتاج المركبات العطرية يحتاج غالباً إلى كميات ضخمة من هذه المواد الأولية. على سبيل المثال: إن شركة أرماني (Armani) التي هي جزء من مجموعة لوريال (L›Oreal)، تتباهى في كتيباتها الخاصة التي لا تخرج للعلن، بل تبقى بين أيدي موظفي الشركة، في شروحها حول منتجاتها الخاصة عالية الجودة، بأن إنتاج كيلو غرام واحد من زيت الفيتيفير(Vetiver) الهندي، الذي يدخل في إنتاج زجاجة Vetiver Babylone، يحتاج إلى 100 كيلوغرام من جذور هذا النبات. بينما يحتاج إنتاج كيلوغرام واحد من زيت الورد الجوري (Rosa Damascena) إلى 3 أطنان من هذه الزهرة، المعروفة أيضاً بالوردة الدمشقية (سميت بهذا الاسم بعد الحملات «الصليبية» ظناً منهم أنها وردة أصلها من بلاد الشام، مع أنها وردة مهجنة تاريخياً، ونقلت من بعدها إلى أوروبا) والتي يدخل كل ما له علاقة في إنتاج هذه الزهرة من حرف تراثية ضمن التراث الإنساني اللامادي لليونسكو، والتي تزرع بشكل خاص في بلدة المراح في القلمون الشرقي في ريف دمشق الشمالي. ويحتاج إنتاج 20 غرام من زيت الزعفران المقطر إلى 10 آلاف من خيوط الزعفران الصغيرة! وهذا ما يتطلب قطفاً بشكل كبير لهذه المواد، وتعريضها للانقراض، فخشب الصندل الموجود غالباً في الهند لم يعد له وجود في البراري الهندية تقريباً، وموضوعة على اللائحة الحمراء للاتحاد العالمي للحفاظ على الطبيعة (IUCN)، وما دفع الحكومة الهندية إلى وضع قوانين صارمة حول حصاد الصندل.
وعلى المقلب الحيواني، هناك المواد المستخرجة من حيوان القندس، والإفرازات الغددية لقطط الزباد (موطنها آسيا الوسطى وإفريقيا بشكل أساس)، والإفرازات من قرون غزال المسك، والعنبر المنتج في نسبة قليلة من حيتان العنبر. وكلها تستخرج بشكل وحشي، فإنتاج 25 غراماً من المسك يحتاج إلى قتل 3 أو 5 غزلان، وهي حيوانات موضوعة اليوم على اللائحة الحمراء للأنواع المهددة بالانقراض. ويعتبر الإتجار بالعنبر غير قانوني لكثير من الدول، مع أنه لا يتم استخراجه مباشرة من الحيتان رسمياً، ولكن هذا لم يمنع اصطياد الحيتان بشكل عشوائي (كان اصطياد الحيتان في القرن الثامن عشر يصل إلى 50 ألف حوت سنوياً، وقتلت ملايين الحيتان بين القرنين السابع عشر إلى التاسع عشر، قرون التوسع الأولي للرأسمالية).
تدمير الطبيعة ونهب الأطراف
هذا النوع من التدمير يطال الطبيعة بشكل عام، ويأخذ شكل نهب الأطراف بالمعنى السياسي. وفق تقارير لمنظمة الأغذية والزراعة (FAO) التابعة للأمم المتحدة منذ منتصف التسعينات، غالبية النباتات العطرية بدأت بالاختفاء. حيث إن أغلب المواد الأولية يتم استيرادها من دول كإندونيسيا، والهند، والصومال، وسيريلانكا، وفيتنام، والصين، كالأكاسيا أو القرفة الصينية، والقرفة؛ وزيت نبات السافراس الموجود في الصين والبرازيل وفيتنام، وهناك قيود على حصاده منذ التسعينات، بعد أن وصل إلى مستويات الانقراض. وهناك زيت خشب الورد الموجود في البيرو، وكولومبيا، وغوييانا، الذي اختفى من هذه الدول في منتصف القرن الماضي، واستمرت البرازيل منذ التسعينات كمُصدِّر وحيد له. وهناك التربنتين الصنوبري، المنتج بشكل أساس في الصين، وكينيا، وجنوب إفريقيا، واليونان، وبعض مناطق الاتحاد السوفييتي السابق، وتركيا، والهند وباكستان، وتايلاند وإندونيسيا. والتحول من الحصاد البري نحو زراعة هذه الأنواع لن يكون مجدياً بسبب طول مدة نضج هذه النباتات.
وهذا التناقض لن تخرج منه الرأسمالية، ولا قطاع العطور نفسه، انطلاقاً من قاعدة التوسع اللامحدود في الإنتاج والربح، فشركة لوريال وحدها مثلا أنفقت في العام 2017 حوالي 9,2 مليارات دولار للتسويق والدعاية، فما هو رادع تلك الشركات أمام عدم تحقيق «الاستدامة»، فالاستدامة تتناقض مع الرأسمالية. على الرغم من محاولات تلك الشركات إنتاج عبوات ومغلفات قابلة للتكرير!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 987