عن شفط العقول والتبادل العلمي غير المتكافئ
في ظل عقود من اشتداد وتعقيد الترابط بين الدول على مختلف المستويات، وفي ظل علاقات النهب التي يشكل النهب «العلمي» وهجرة القدرات العلمية والبحثية من دول الأطراف إلى دول المركز، وحتى بين دول الأطراف نفسها، والتي تشكل الدول الصاعدة وجهة أساسية فيها، فإن قطاع التعليم العالي والبحثي عالمياً تأثر وسيتأثر بشكل كبير بتداعيات الأزمة الاقتصادية- السياسية والصحية والتحولات التي تطرأ على العالم.
أرقام عالمية
حسب «مركز تحليل معطيات الهجرة الدولية» (GMDAC) التابع لمنظمة الهجرة الدولية المرتبطة بالأمم المتحدة (IOM)، وصل عدد الطلاب الجامعيين الدوليين في 2017 إلى نحو 5,3 ملايين طالب حول العالم (من أصل حوالي 200 مليون طالب في التعليم العالي عالمياً)، حيث كان مُقدراً أن يصل هذا الرقم إلى 8 ملايين في العام 2025. وحسب منظمة الثقافة والعلوم والتعليم التابعة للأمم المتحدة (أونيسكو) كان هذا الرقم 2 مليون طالب في العام 2000 (وكان 800 ألف طالب فقط في العام 1975)، أي: إنه تضاعف حوالي الـ 3 مرات في غضون العقدين الأخيرين، وحوالي 6 أضعاف من السبعينات. ولكن هذا الرقم يصبح أكبر إذا ما أخذنا معيار التصنيف الأعم، الذي هو «الطلاب الأجانب» وليس فقط «الطلاب الدوليين». فالأول: يضم الطلاب الذين هم من أصول أجنبية ولكنهم يحملون إقامة دائمة في البلاد التي يدرسون فيها بسبب هجرة أهلهم سابقاً إلى تلك الدول. وهؤلاء ولا شك ضمن فئة النزف البشري الحاصل بين الدول. بينما المقصود بالطلاب الدوليين، أولئك الذين يحملون سمة طالب في الدولة التي يدرسون فيها ولا يحملون إقامة دائمة فيها.
المركز الغربي يشفط العقول
يتوزع أكثر من نصف هؤلاء الطلاب على 5 دول: الولايات المتحدة الأمريكية، المملكة المتحدة، أستراليا، فرنسا، ألمانيا، وكندا. وفي العام 2013 كان أكثر من 53% من هؤلاء الطلاب يأتون من آسيا، وبشكل أساس من الصين، الهند، وكوريا الجنوبية.
وإذا أخذنا الأطر الدولية المعروفة، فإن حصة منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) من الطلاب الدوليين كانت في الـ 2013 تشكل 77%، تلك المنظمة التي تضم 37 دولة (تضم أغلب دول أوروبا، إلى جانب الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، تركيا، كوريا الجنوبية، أستراليا، نيوزيلندا، المكسيك، اليابان، كندا، تشيلي، كولومبيا، أيسلندا، و«إسرائيل») في حين أن حصة الدول الـ 20 الكبرى (G20) كانت تشكل 83% في ذلك العام. وتشكل حصة الولايات المتحدة وحدها حوالي المليون و100 ألف طالب حسب أرقام 2019، أي: ما نسبته حوالي 20% من مجموع الطلاب الدوليين، ونسبة 5,5% من طلاب الولايات المتحدة نفسها، وقدرت مساهمة الطلاب الدوليين الاقتصادية للولايات المتحدة بـ 45 مليار دولار أمريكي في العام 2018، حيث يشكل الطلاب الصينيون أكثر من 30% من الطلاب الأجانب في الولايات المتحدة، بينما يشكل الطلاب الهنود حوالي 20%، أي: 50% من الطلاب الأجانب في الولايات المتحدة هم من الهند والصين! وحوالي 5% من كوريا الجنوبية، و3,7% من السعودية، وحوالي 2,6% من كندا. بينما شكلت حصة أوروبا 48% من مجموع الطلاب الدوليين حسب أرقام الـ 2013.
حصة الدول الصاعدة: روسيا والصين
وهكذا يمكن القول: إن الولايات المتحدة وأوروبا، المركز الغربي، يضمان حوالي 70% من هؤلاء الطلاب. ولكن في الأعوام السابقة حصل هناك تحول طفيف في هذا التوزيع، حيث انخفضت حصة الولايات المتحدة من 28% إلى 21% (النسبة الحالية). وفي ذات الفترة ارتفعت حصة روسيا من الطلاب الأجانب لتصل إلى حوالي 4,5%، حيث إنه أكثر نصف هؤلاء تقريباً قادمون من رابطة الدول المستقلة (CIT) التي تضم 9 دول كلها من الفضاء السوفياتي السابق (أرمينيا، أذربيجان، بيلاروسيا، جورجيا، كازاخستان، كيرغيستان، مولدافيا، روسيا، طاجيكستان، أوكرانيا، وأوزباكستان). بينما تمثل كازاخستان، تركمانستان، وأوزباكستان الحصة الأهم، وبشكل عام يشكل الطلاب الآسيويون حوالي 25% من الطلاب الأجانب في روسيا، ومن الشرق الأوسط وإفريقيا هناك المغرب، والعراق، سورية، مصر، نيجيريا، وغانا. ومؤخرا بدأ عدد الطلاب من أمريكا اللاتينية بالارتفاع في روسيا. بينما يشكل الطلاب الأمريكان الذي يدرسون في روسيا أقل من 2%.
أما الصين، فإنها تضم، حسب أرقام العام 2018، حوالي الـ 10% (492 ألف طالب) من الطلاب الأجانب حول العالم، يتوزعون على قارات العالم على الشكل التالي: 60% من آسيا، 16.5% من إفريقيا، 14.9% من أوروبا، 7,3% من أمريكا، وأوسيانا 1,3%. وحوالي 13% من هؤلاء الطلاب يدرسون عبر منح الحكومة الصينية. وهذا الرقم كان في تزايد طفيف خلال السنوات الماضية، فهو كان في العام 2017 حوالي 489 ألف طالب، أي: بزيادة سنوية تقريبية تقدر بـ 1%.
التبادل اللامتكافئ
تظهر النسب أعلاه أن حصة الأسد من حركة الدراسة عالمياً (ولاحقاً المهنية والبحثية) هي من نصيب المركز الغربي، حيث لا تصل حصة الدولتين الصاعدتين روسيا والصين إلى 15% منه. دون أن يعني ذلك ضعف القدرة العلمية والطاقات البشرية الخاصة في هاتين الدولتين، ولكنه يظهر أن الطاقة العلمية الوافدة عالمياً يتم امتصاصها من قبل المركز الغربي، فحسب أرقام وزارة التعليم الصينية، فإن الصين نفسها يخرج منها سنوياً حوالي 600 ألف طالب (يتوجه أكثر من نصفهم إلى الولايات المتحدة) يدرسون بغالبتيهم على حسابهم الخاص(88,97%) والبقية يتم دعمهم من قبل مجلس المنح الصيني، مما يجعل الصين أكبر مصدر للطلاب الأجانب عالمياً، يعود منهم إلى الصين (على فترات غير محددة لا ترتبط بانتهاء الدراسة) حوالي 480 ألف طالب، ما يجعل نسبة النزف طويل المدى حوالي 20%، وهذا الرقم هو في انخفاض متزايد مع الوقت، مع تطبيق الصين سياسة استعادة الخبرات الوطنية ما وراء البحار، مع تخصيص تقديمات ومغريات ضخمة لهذه الغاية.
ما بعد كورونا
لا يبدو أن وضع الدراسات العليا «عابرة للحدود» سيبقى ذاته، فتداعيات الأزمة السياسية- الاقتصادية والصحية سوف تؤثر بشكل كبير. على المستوى الاقتصادي، خصوصاً أن حصة المنح لا تغطي إلّا حصة ضئيلة من مجموع الطلاب. وحسب تقرير «التعليم العالي عالمياً» الصادر عن مركز الدراسات العليا الدولية التابع لـ «بوسطن كوليج”، إن التعليم العالي ستتراجع حصته خصوصاً في ظل عدم وضع أغلب الدول هذا القطاع في أولوياتها ضمن خطط التعافي في ظل الأزمة، وبالتالي فإن التمويل سيقل، وقدرة الفئات الوسطى والدنيا على الدراسة خارج الحدود ستضعف أكثر. وستتراجع هذه الحركة الدولية، خصوصاً أن اتجاه الانغلاق وعنصر التعصب الشوفيني يزداد أكثر، وما إعلان الولايات المتحدة عن ترحيل الطلاب الصينيين في البلاد إلا خير دليل على ذلك. ويعتبر التقرير أن ما سيصمد في هذا القطاع هي الجامعات الأكثر قدرة مالية وحضوراً على الساحة (تشير التقديرات أن 20% من المؤسسات التعليمية ما بعد الثانوية في الولايات المتحدة سيتم إغلاقها)، مما سيزيد التمركز العلمي أكثر ليس بين الدول فقط، بل داخل كل دولة وبين مؤسساتها، وغياب المساواة في الحصول على تعليم عالٍ، وخصوصاً في ظل ضعف بنية هذا القطاع في دول الأطراف (أزمة التعليم عن بعد في ظل كورونا مثلاً) التي ترّحل طلابها إلى الخارج، إضافة إلى ما من شأنه إضعاف التواصل البحثي والعلمي بين الدول، خصوصاً في ظل الأزمات السياسية البينية. ولكن ما سيرتفع حسب التقرير هو فئة «الطلاب اللاجئين» القادمين من أماكن الحرب والاقتتال.
انعكاس المعدالة
إن الأزمة تفتح الباب أمام انقطاع معادلة التبادل اللامتكافئ على المستوى العلمي، ولكن هذا لا يعني ولادة نقيضها، المتربط بشكل مباشر بسياسات جذرية في الدول التابعة المنهارة اليوم، والذي قد يشكل النموذج الصيني دليلاً على نجاحها. ما يفتح الطريق نحو تعاون علمي متساوٍ ولمصلحة الخط الصاعد عالمياً وشعوب العالم.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 986