من الشيخ إمام حتى بو ناصر طفّار: الأغنية السياسية من السخرية حتى الغضب

من الشيخ إمام حتى بو ناصر طفّار: الأغنية السياسية من السخرية حتى الغضب

في عام 1977 خرج الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم بأغنية جديدة أضحكت الشارع المصري، وأدخلت كاتبها سجن السادات. 

حملت الأغنية اسم «عن موضوع الفول واللحمة» وجاءت بمثابة تعليق ساخر على تصريحات كان يروّج لها في الشارع المصري، حول فوائد الفول الصحيّة كمصدر للبروتين بالنسبة للطبقات الفقيرة، مقابل مضار اللحمة الدسمة والثقيلة على معدة الإنسان. يقول إمام في المقطع الأول من الأغنية: «إن الشعب المصري عموماً من مصلحتو يقرقش فول»، في حين أن «اللحمة دي سم أكيد، بتزوّد أوجاع المعدة وتعوّد على طولة الإيد». تنسب الأغنية كل تلك التصريحات إلى شخصية مسؤولة اسمها «الدكتور محسن» الذي يظهر كنموذج لمثقفي السلطة، الذين يحاولون استغباء الناس. يستخدم هؤلاء اللغة والأدلة العلمية لإضفاء طابع الموثوقية على خرافات تكرّس هيمنة الطبقة المسيطرة اقتصادياً، وتضمن تهدئة النفوس وامتصاص غضب الناس عبر إقناعهم بأنهم لا يفوّتون على أنفسهم الشيء الكثير، وأن الفقر في المُحصلة يصب في مصلحتهم.
تستمر الأغنية في ذكر مناقب الفول، والتأكيد على كلام السيد محسن قبل أن تنقض عليه في نهايتها بأسلوبٍ لا يقل احتيالاً عن تصريحاته فتقول: «ما رأي جنابك وجنبهم في واحد مجنون بيقول، نحنا سبونا نموت في اللحمة وأنتوا تعيشوا وتاكلوا الفول؟».
بعد 42 عاماً على إصدار هذه الأغنية الشهيرة خرج مغني الراب اللبناني بو ناصر طفّار بأغنية مختلفة، قد تبدو في الظاهر بأنها لا تمت بصلة لأغنية إمام ونجم، تحمل اسم «ولّا لا؟!».
عبر إيقاعٍ سريع لا يترك مجالاً لإلتقاط الأنفاس، يستنكر الطفّار في أغنيته تفاصيل مرتبطة بحياة الفقراء، لا يمكن أن تكون في حال من الأحوال ضمن تفضيلاتهم وخياراتهم. يتساءل: إن كانت الموضة أن تخرج أصابع القدم من جوارب مثقوبة مهترئة، أو يكون ديكور غرفة الجلوس متضمناً براداً وسريراً بسبب ضيق المكان. يتحدث عن اضطرار النساء الفقيرات لارتداء الثياب ذاتها في العزاء والفرح. ويقول: أن كل ذلك ليس خيارهم.
في هذه الأغنية، يصرخ الطفّار بلكنته البعلبكية المعروفة: «قناعتنا كنزهن هني.. لما تقلي المال زبالة وأنت حاشي تمّك فيه، من زلعومك رح اسحبو، ولّا لا؟» ويضيف في مقطعٍ آخر: «مين قلك أنو نحنا منهوى البؤس؟ شو إلي بيتعب من الشغل بيكره يتعب من الرقص؟». ويستنتج الطفّار في أغنيته أن هذا النوع من الخطاب صادر عن فئتين محتملتين حينما يقول: «يلي بينصحك بالصبر غني أو جبان فقير والتنين خافو يخسرو.. ولا لأ؟».
قد يبدو للقارئ الآن بأن هناك خيطاً واحداً يجمع بين الأغنيتين، بالرغم من فارق الزمن واللهجة والظرف التاريخي والنوع الموسيقي. فالأغنيتان تحاولان الرد والسخرية من الخطاب الذي يغري الفقراء بالقناعة والرضا بحقيقة كونهم فقراء. لكن في الوقت الذي يستخدم فيه نجم وإمام أسلوب السخرية المبطنة والضحك والتحايل على هذا الخطاب، يبدو الطفّار غاضباً وعنيفاً كما لو أن صبره قد نفد. فهو وعلى الرغم من أنه يسخر من هذا الخطاب، لكنه لا يتظاهر حتى بمسايرته، بل يستخدم مفردات فجة وعنيفة توحي بالوعيد.
هذا ويبدو أن الطفّار قد بدأ بصياغة الأفكار التي تضمنتها الأغنية في كتابه الأول الحرايق (2016)، وهو بمثابة سيرة روائية ذاتية، يستعرض فيها بعضاً من أفكاره ومشاعره تجاه تناقضات يعيشها ضمن مجتمعه. ففي أحد المقاطع يسرد الطفّار تفاصيل من يوميات الفقراء وفئات مضطهدة أخرى ليقول مرة أخرى بأن حياة الفقر لا يُمكن أن تكون مرغوبة أو مُختارة بمحض إرادة الإنسان، فيكتب بهذا الخصوص: «أليس غباءً ووقاحة أن تعتقدوا أن أي إنسان في العالم كان يحلم أن يكون ناطقاً بلسان المحرومين، كارهاً لنصف الناس ومكروهاً من نصفهم الآخر؟». لكن وكما يبدو أن الأفكار الأولية التي صاغها الكاتب في نصه السردي امتلكت قوة وكثافة بعد تحويلها إلى أغنية. ذلك يحيلنا مرة أخرى للحديث عن أمر آخر مشترك فيما يتعلق بالأغنيتين مكان التحليل، ف «موضوع الفول واللحمة» و «ولا لا؟!» تشتركان في كونهما وظفتا مرونة وخصوصية اللهجات المحكية في المجتمعات التي خرجت منها. ففي حين نقع في أغنية نجم على كلمات ساخرة، مثل «مزلقط» و«يقرقش» التي تؤكد خفة الدم المصرية المعهودة، وتعبّر عن مقدرة هذه اللهجة وطواعيتها، نجد أمراً مشابهاً في أغنية بو ناصر يتعلق باختيار مفردات معينة باللهجة المحكية البعلبكية، تشبه إلى درجة كبيرة كلام الناس الدارج، وإن كانت أغنية بو ناصر أكثر مباشرة وصراحة.
وفي الحقيقة، ومقارنة بمغني راب آخرين موجودين حالياً في مشهد الراب العربي، تمتاز أغاني الطفّار بالحضور الواضح للقضايا السياسية. بالنسبة للبعض يشكل ذلك نقطة قوة في هذا المشروع الفني، مقارنة بتيار آخر من المستمعين الشباب الذين يفضلون أن تكون أغاني الراب مفصولة عن السياسة، وخالية من مضامين مرتبطة بها، فهؤلاء يريدون الاستماع إلى الموسيقى بدون «وجع راس».
تشكل الأغنيتان- وإحداهما ساخرة والأخرى غاضبة- نماذج مختلفة من الأغنية السياسية، وكل منهما تحاول أداء وظيفة مختلفة. ففي حين تستهدف أغنية «موضوع الفول واللحمة» السخرية من الخطاب المضاد للطبقة الاقتصادية المسيطرة، وإظهار تفاهته واستخفافه بعقول الناس، تحاول أغنية «ولا لا؟!» شحن الناس إلى أكبر درجة ممكنة وتركهم مستفزين وغاضبين تمهيداً لقيامهم بخطوة فعلية. لكن يبقى الأمر المثير للسخرية، أن الخطاب السائد ذاته لم يتغير خلال أربعين عاماً، وما زال يحاول إقناع الناس بأنهم يجب أن يصبروا ويقنعوا ويكتفوا بأكل الفول، إن توفّر.

معلومات إضافية

العدد رقم:
979