الخروج من حفرة تسمى 2020

الخروج من حفرة تسمى 2020

«إني لأخشى النوم كما تُخشى حفرة كبيرة»
قد مُلئتُ تماماً برعبٍ غامض يفضي إلى حيث لا ندري
ولا أرى عبر النوافذ كلها غير ما لا ينتهي»

اُقتُبِسَتْ الأسطر القليلة السابقة من قصيدة «الهاوية» للشاعر الفرنسي بودلير (1821- 1867). وعلى الرغم من أن هذه القصيدة كُتبت في القرن التاسع عشر، لكنها تحاكي مشاعر السواد الأعظم من الناس الذين يحسون بأنفسهم عالقين في هوة شبيهة تماماً بتلك التي يصفها بودلير في قصيدته. 

في الحقيقة، التاريخ عموماً مليء بالحفر، وبهذا المعنى تكون حركته أشبه برحلة أبدية للسقوط فيها، ومن ثم الخروج منها. خاصةً وأن النظرة البانورامية لعمق الحفرة ومداها قد لا تكون ممكنة، إذا ما كان المرء غارقاً حتى أذنيه في اليأس معتقداً بأنه وصل النهاية في هذا القعر العميق. 

على صعيد الأدب عُبّر عن هذا المناخ من التشاؤم والعبث والخوف من المستقبل بموجات متتالية من التيارات العدمية، ضَمت كتّاباً، مثل: إيميل سيوران وسارتر وفلوبير وغيرهم. ما جعل بعض النقاد يرون أن العدمية استقرت كأقوى مدرسة فكرية في أوروبا الغربية، خاصةً وأنها جاءت كرد فعل على حفرة اسمها «الحرب العالمية الثانية». لكننا في هذا المقال لن نتطرق إلى العدمية كتيار أدبي، بل سنتتبع آثارها في اللغة البسيطة اليومية التي يستخدمها الناس للسخرية الظروف الاستثنائية الصعبة التي يعيشونها اليوم على مواقع التواصل الاجتماعي. 

«2020» نجمة مواقع التواصل الاجتماعي 

نال عام 2020 ما ناله من سخرية لأنه كان عاماً استثنائياً بحق. جاءت البداية مع حرائق الغابات الأسترالية، ومن ثم وباء فايروس كورونا التاجي الذي ترافق مع مجموعة متنوعة من الكوارث الطبيعية والأعاصير وهجمات الجراد والدبابير القاتلة، ليتوج كل ذلك بتفجير بيروت السريالي. وكل ذلك أشعر الناس بأنهم يصلون إلى شكلٍ من أشكال الذروة المهددة بالدمار على صعيد الطبيعة والصحة والسياسة والاقتصاد.

تركزت العديد من أشكال السخرية على تخيّل 2020 لعبة كومبيوتر بمستويات عدة، يحارب فيها اللاعب الوحوش، ويتجاوز المطبّات والحفر ومكامن الخطر، حتى ينتصر وينتقل إلى مرحلة جديدة يواجه فيها وحوشاً أشد شراسة من سابقاتها. 

فيما نُشرت صورٌ ظهر فيها عام 2020 أشبه بوحش كاسر يخاطبه بنو البشر قائلين: «عزيزي عام 2020 هل يمكن لك التوقّف عن إحداث المزيد من الكوارث.. طوال الخمس دقائق القادمة؟!». بينما تم أيضاً تداول عبارة تقول: «أنا محتاجةٌ حقاً لجمع شتات حياتي، لكنني وبدلاً من ذلك أنتظر حتى أعلم إن كان العالم سينتهي حقاً، قبل أن أبذل جهداً حقيقياً من أجل ذلك». وعلى الرغم من اختلاف هذه النكات، تُجمع كلها على فكرة تلاحق المصائب. ففي ظل ظروف قاسية وغير متوقعة، تتحول السخرية إلى شكلٍ من أشكال التأقلم، أو رغبة بـ «الضحك على البلايا» مع أكبر شريحة ممكنة. 

اللامخرجية

لكن، وعلى الرغم من تصدّر السخرية كإحدى أبرز آليات الدفاع النفسية المُعلنة تجاه ما يحصل في العالم اليوم، فهي لا تنجح في التغطية على الشعور العميق باليأس الذي يسيطر على شرائح واسعة من الناس، وما يرافقه من انتشار لمرض الإكتئاب وموجات الهلع المرضية، الأرق، الأفكار الانتحارية والسلوك الإدماني بمختلف أشكاله. 

بصورة أو أخرى، ينتاب الكثيرين إحساسٌ طاغٍ بأنهم يعيشون شكلاً من أشكال «اللامخرجية» التي تعرّف بكونها: «نزاع دائم لا يقبل الحل يقع المرء فيه ضحية وضع علائقي منغلق، أو بمعنى آخر دائرة مغلقة لا فكاك منها». 

وهنا لا بد من الاعتراف بدايةً بأن الصعوبات والأحداث الجسيمة التي تحصل، موضوعية، أي موجودة خارج عقول وتهيئات الناس، وليست من بنات أفكارهم. وهذا يعني بالتالي تجنّب أي شكل من أشكال الخطابات التي تروّج للبرمجة اللغوية العصبية ونشر الطاقة الإيجابية، وقوانين الجذب، التي تخبر الناس بأن الإيجابية وتغيير نظرتهم للعالم كافية لتغييره. فالحقيقة أن التغيّرات المُتسارعة في الأشهر القليلة الماضية أسكتت هذه التيارات وجرفتها من الحيّز العام. ولهذا ربما يجب أن تُترك للناس الفرصة كي يحزنوا ويقلقوا ويغضبوا، لأن ما يحصل حولهم يستحق كل ذلك. أي أنه رد فعل موضوعي ومبرر على أحداث لا تقل موضوعية. 

تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة

قد تكون العبارة القائلة: «إن تشاؤم العقل لا يقاومه إلا تفاؤل الإرادة» إحدى أكثر عبارات المُفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي رواجاً، ذلك أن فيها ما يُغري الكتاب والمفكرين بالتأمل. كما لو أن غرامشي يعترف أن قراءة المعطيات والوقائع ستصيب المرء بالتشاؤم، لكن إرادته في الحلم بالتغيير وتشييد حياة أفضل ستهزم نزوعه لليأس». 

والمحيّر في هذه العبارة، أن المرء لا يستطيع القول حقاً: إن كان غرامشي متفائلاً أو متشائماً، لكن هذا تحديداً هو الأمر الأقل أهمية هنا. كما لو أنه بعباراته تلك يضع حداً فاصلاً بين المشاعر والأفعال، أو يقول بصورةٍ أو أخرى: لا بأس في أن تكون حزيناً، لكن ذلك لا يجب أن يدفعك إلى التوقف عن العمل والمحاولة، حتى وإن كانت تلك المحاولات تُلاحق حُلماً بعيداً قد لا تجني ثماره أنت. 

فغرامشي بعبارته تلك يحوّل التفاؤل إلى شكلٍ من أشكال الإلهاء، أو استراتيجية من استراجيات الصمود. كما أن حياته تحولت بصورة أو أخرى إلى تعبيرٍ حي عن صدق هذه العبارة. فإذا ما كان الواحد منا يظن بأن حياته سيئة بما يكفي ليتخيّل أن الفاشية اعتبرته عدوها الأول، وسجنته ومنعته من العمل، ولم تطلق سراحه إلى أن بات مريضاً بما يكفي كي يموت من تلقاء نفسه بعد خروجه من السجن. ومع ذلك نجح غرامشي في صياغة عبارة بثت السكينة وهدأت من روع أجيال وأجيال من بعده. قد تكون الحفرة عميقة حقاً هذه المرة، لكن لا خيار أمامنا سوى تسلق جدرانها في محاولة للخروج.

معلومات إضافية

العدد رقم:
980
آخر تعديل على الأربعاء, 26 آب/أغسطس 2020 14:18