الأفلام والقصص القصيرة:  زمن ثقيل وشخصيات مغتربة

الأفلام والقصص القصيرة: زمن ثقيل وشخصيات مغتربة

هناك كما يبدو، سوء فهم شائع يتعلق بفنون ذات طبيعة خاصة، مثل: القصة القصيرة أو الفيلم القصير. يظن البعض بأنه يكفي أن تكون الأفلام المصورة أو القصص المكتوبة قصيرة، مقارنة بعمل روائي أو فيلم طويل حتى تستحق الاسم. لكن الأمر في الحقيقة لا يتعلق بالحجم فقط، بل بالبنية وما تفرضه من أساليب فنية.

واليوم، يلقى هذان النوعان من الفنون إقبالاً كبيراً في أوساط الهواة من الكتّاب وصنّاع السينما على اعتبار أنهما أكثر سهولة، ولا يستغرق إنجازهما وقتاً طويلاً. فيسارع الكثيرون لخوض غمارهما، دون أن يعلموا أنهم ورطوّا أنفسهم بفنونٍ صعبة، وذات خصوصية.
الزمن بطيء كسلحفاة
يشكل الزمن أحد المكونات الأساسية، إن لم يكن أكثرها أساسية، في كلا النوعين من الفنون. وبالتالي، يكون الكاتب أو السينمائي أمام خيارين؛ إما تكثيف الحدث، بمعنى تسريع مجرياته واختصاره بسلسلة من الرموز المنتقاة، أو الاختيار الدقيق للمدى الزمني الذي سيتم تجسيده؛ كأن يكون يوماً في حياة شخصية أو عدة ساعات فقط. بمعنى أنه وحتى إذا ما احتفظ الحدث بإيقاعٍ واقعي يشبه الذي يحصل في الحياة، يجب أن يتجلى ذكاء الكاتب في اختيار لحظة مفصلية من الزمن تجعل ما بعدها مختلفاً عما قبلها، أو تحدث تبدلاً في مسار الشخصية.
لكننا اليوم، كثيراً ما نقع على قصص قصيرة يبدو فيها الزمن رخواً بحيث يتم سرد مجموعة من الأفعال التي قامت بها شخصية ما. مثل: استيقظ الرجل، استحم، جلس أمام الشباك، تناول إفطاره في مقهى، تجوّل في المدينة، تأمل الغروب ثم لم يحدث شيء، وتنتهي القصة قبل أن تبدأ. اللافت في هذا النوع من المحاولات الأدبية: أن زمن الفعل فيها يبدو ثقيلاً وأكثر وطأة من زمنه الحقيقي، بحيث يشعر القارئ بضيقٍ لا يصدّق وهو يحاول إنهاء صفحة واحدة أو عدة أسطر.
القصة القصيرة من وجهة نظر الناقد الإيرلندي فرانك أوكونور هي «حكاية الرجل الصغير»، أو بالأحرى حكايا الناس المغمورين كالموظفين والعاهرات والخدم، وهي شخصيات تهيم على حواف المجتمع. وبالتالي، يرى أن الفرق بين الرواية والقصة القصيرة فرق في القالب وفرق إيديولوجي أيضاً. يقول أكوانور: «وبما أن حياةً بأكملها لا بد أن تحتشد في بضع دقائق فإن هذه الدقائق لا بد أن تُختار بعناية حقيقية. ويضيف مؤكداً بأن الكاتب كثيراً ما يكون عرضة لخطأ فاحش بحيث تتحول قصته إلى حكمة أو «قصة طويلة قصيرة».
ونرى خللاً مشابهاً مرتبطاً بفهم الزمن في بعض المحاولات السينمائية، فعلى سبيل المثال: نجد الكثير من المخرجين الشباب السوريين مغرمين بمشاهد البكاء والعويل، على اعتبارها تحمل بنظرهم شحنة انفعالية عالية. وبناء عليه، كثيراً ما نرى مشهداً يصوّر بطلة أحد الأفلام منذ الثانية التي تبدأ عيناها تغرورقان بالدموع؛ نرى الدمعة تجري على الخد، وصوت النحيب يرتفع، ويتخلله وقفات واستراحات، تعاود بعدها الشخصية بكاءها فيما يستجدي المشاهد في سريرته لحظة القطع (Cut) التي لا تأتي.
هوس المقولات الكبيرة
من جانب آخر، يظهر سوءُ فهمٍ متعلق بالنزوع لاختيار مقولات كبيرة وطنانة كالخيانة، والفقر، وحب الوطن، والصداقة كي يتم إيصالها عبر قصة أو فيلم قصير. وعلى اعتبار أن الوقت لا يسمح بالتبحّر، وتكون النتيجة تقديم المقولة بصورة مبتذلة ومبسطة تستخف بعقول المشاهدين والقراء.
يقدم الفيلم- القصة القصيرة، في أحسن الحال جزءاً من جزء متناهي الصغر من مقولة كبيرة، لكن النجاح الحقيقي يتجلى في تقديمها بأكبر درجة ممكنة من العمق. هكذا تتحقق الخصوصية والاستثنائية في استكشاف مشاهد، أو مواقف، أو حوادث في الحياة اليومية، قد تبدو في الظاهر عابرةً وبسيطة لكنها تحكي الكثير عن ظرف الشخصية ومشاعرها وصراعاتها.
ميزانية مخصصة للانفجارات
يدرك صنّاع الأفلام القصيرة مسبقاً، أنهم غالباً ما يحصلون على ميزانيات منخفضة لإنتاج أعمالهم. وبالتالي يكون لزاماً عليهم التفكير في الأولويات، وإيجاد أفضل السبل لاستثمار الإمكانات المتاحة. وهذا أمرٌ قلما نراه مثلاً في التجارب السورية الشابة، التي عالجت موضوعة الحرب ضمن «مهرجان سينما الشباب» في دورته الحالية والسابقة. إذ تكاد تخلو إحداها من مشاهد القصف والانفجارات والمداهمات. كما لو أن إعادة تمثيل الانفجارات، التي لم ينسها المشاهد بعد، تلتهم الكتلة الأكبر من أية ميزانية، وتترك فتات يتم توزيعها على أزياء مبتذلة، أو مشاهد ضعيفة تقنياً وأدائياً. بحيث لا يكون مفهوماً أي انتصار حققه شابٌ استطاع إعادة خلق انفجار حفظه حتى الملل كل أبناء جيله؟
قل ما تريد قوله
كثيراً ما يحصل، حينما يجد الهواة الفرصة سانحة لإنتاج فيلم قصير أو كتابة قصة قصيرة، أن يهربوا لما يظنون بأنه يتوجب عليهم قوله أو معالجته في نتاج فني، بدلاً من التفكير بحرية فيما يريدون قوله حقاً، مهما بدت أفكارهم بسيطة. فنراهم يقولون في سرهم: «لا بد من كتابة قصة عن معاناة اللاجئين»، فيختلقون شخصية تعارك للحصول على لم شمل أو توشك على الغرق في المحيط. أو يقولون: «الوضع الاقتصادي شديد السوء، لا بد أن أصنع فيلماً يصور معاناة الطبقة الفقيرة، فلأخلق شخصية، ثم لأجعلها تتعذب وهي تبحث عن عمل، أو تتأمل الأغنياء يتناولون عشاءهم في مطعم فخم». وكثيراً ما يأتي نمط التفكير هذا بنتائج معاكسة للهدف المطلوب، فيشعر المتلقي بالنفور من القضية. فعلى سبيل المثال: تريد الكثير من الأفلام التي تصوّر حياة المعدمين في سورية إثارة شفقة المشاهد عليهم، تصورهم ضعيفين، مسحوقين، بحيث يشعر المشاهد بمسافة من الحدث، ولا يبني أية صلة مع الشخصية التي يراها أمامه. هذا يترك المشاهد يتساءل: «لماذا لا نرى في كل هذا الكم من الأفلام القصيرة فقيراً يشعر بالغضب؟ مع أن هناك الكثير الكثير مما قد يستدعي غضبه في الحقيقة؟ لماذا يعاني كل فقير بذات الطريقة ويواجه ذات العقبات؟
فعلى الرغم من أن الشباب يمتلكون الكثير مما يريدون قوله لو سُئلوا عن مشاعرهم وأفكارهم، لكننا نجدهم يحيّدون كل ذلك جانباً، ويخلقون شخصيات مغتربة أمام الكاميرا أو على الورق، لا تشبههم كفنانين، ولا تشبهنا كمشاهدين.

معلومات إضافية

العدد رقم:
973
آخر تعديل على الإثنين, 06 تموز/يوليو 2020 13:22