تحوّل الوعي والتفاؤل التاريخي..
قد يصاب الكثيرون بالإحباط نتيجة ما يعتبرونه استعصاء الوعي الاجتماعي على قبول أفكار التغيير الجذري، وما يتطلبه ذلك من قناعات عميقة تُعبر عنها الممارسة، بمعزل عن علاقة هذه الفئات بالأحزاب السياسية التي ترفع شعار التغيير. المقصود بالاستعصاء هو الرواسب الموروثة من المرحلة الماضية وفكرها المهيمن، والتي لا زالت تتحكم بمفاصل بنية الفكر العام. ولكن هذا بحد ذاته هو سقوط في فخ التبسيط واستسهال التحليل.
انتقال الوعي والضرورة
الانتقال على مستوى الوعي، كما في المجتمع وعلاقاته، حادّ ومتعرّج، خفيّ حيناً وظاهر حيناً آخر، يتسارع ويتباطأ حسب مجريات الحدث، ولكن الأكيد: أن الضرورة تفرض ذاتها على عملية الانتقال. ولكن لكي نحدد صعوبة الانتقال علينا أن نراجع نوعية الوعي الذي يحصل فيه التناقض، ويشهد ضرورة الانتقال رداً على الأزمة في الواقع المعاش.
الوعي الليبرالي في انتقاله
إن الوعي الذي جرى إنتاجه طوال العقود الماضية، هذا الوعي الذي تمت الهيمنة عليه من قبل الفكر السائد وقيمه وأهدافه، هو الوعي الليبرالي. إذا لا بد لخصائص هذا الوعي بالذات أن تتحكم بنظرته إلى الواقع الجديد المأزوم الذي وجد نفسه فيه. ومن أهم هذه الخصائص: القناعة بالمستقبل السعيد والواقع المستقر البعيد عن الانهيارات، واستبعاد الخسارة، والقناعة المطلقة بالقدرة على النجاح، واعتبار الواقع الاجتماعي بيئة «صديقة»... إضافة إلى العديد من خصائص الفكر الليبرالي المعمم. هذه الخصائص تركت ملامحها وتأثيرها العميق في الجهاز النفسي للفرد وفي شخصيته. فهي تركت الفرد بدون أسلحة تحصنه في زمن الأزمة. هذه الأسلحة التي تعينه على الدفاع عن تماسكه في الحد الأدنى، وتعينه على مواجهة الأزمة لتخطيها في الحد الأقصى.
هذه الصعوبات تجعل من مرحلة التحول ممتدة زمنياً، وغير محسومة المراحل بشكل ميكانيكي. إذا ما أضفنا إلى ذلك أن الوعي لا يعني الانعكاس الميكانيكي للواقع أساساً، بل هو انعكاس غير مباشر يمر بوسيط هو ذاته ممارسة الفرد ووعيه المسبق التشكل.
الممارسة كوسيط أساس
من هنا ندخل إلى قضية أخرى هي دور الممارسة كوسيط. فأن يكتسب الوعي علاقة تفاؤلية تجاه الواقع التاريخي، يعني بالضرورة أنه يملك صفة القدرة على الفعل، وبالتالي التملّك النظري والمعرفي السابق لهذه الفعالية. ولكن نحن اليوم أمام تراجع تاريخي للبديل الثوري، الذي هو منصة معرفية ونظرية أساسية لتقديم أدوات هذا التملك للفئات الاجتماعية. ونتيجة الكبح في الممارسة الثورية لكل فرد، ونقصد بذلك الممارسة الثورية التي تملك قدرة التأثير، لا فقط في القول والخطاب، نتيجة لهذا الكبح يدخل الوعي في علاقة خضوع أمام الواقع مهما تمرّد على الواقع ورفضه. الخضوع هو ضعف الفعالية نحوه. هذا ما نشهده مثلاً في مجتمعنا بعد الموجة الشعبية الأولى التي انطلقت في العقد الماضي، ولمست الجماهير نتيجتها غير المرضية، ما أنتج عنصراً جديداً للإحباط، أي ما ثبت للجماهير عدم القدرة على الفعل بالملموس التاريخي، مع أن ضعف الفعالية هذا نابع من خلل في الممارسة والرؤية والمشروع السياسي، وليس ضعفاً مطلقاً في الحركة.
مقارنة تاريخية
عند المقارنة التاريخية مع الحركة الثورية في القرن الماضي نرى أن العديد من الصعوبات التي مررنا عليها أعلاه لم تكن حاضرة، وأهمها: الصعوبات المرتبطة بالخصائص النفسية والذهنية للقوى المقهورة. وقتها كانت تلك القوى ذات علاقة صراعية صريحة مع البنية السياسية الاستغلالية المباشرة، على عكس الاستغلال الناعم الذي تطور في المنتصف الثاني من القرن الماضي. هذه الخصائص كانت قاعدة أساسية في الاستعداد القتالي طويل الأمد لدى الجماهير، فالنقلة الثورية على الأزمة بالنسبة لها لم تكن مرحلة عابرة، بل كانت نمط حياة تمرست في خوضه طوال سنين حياتها نتيجة الواقع القهري المباشر. وهي لذلك كان محصنة بالمعنى الذهني والنفسي لقبول الخسارة. فالخسارة بالنسبة لها كانت القاعدة. على عكس البنية الذهنية والنفسية في المرحلة الراهنة، حيث كان الربح هو قاعدتها المكونة لملامحها.
بين الخسارة والربح
هذا الاختلاف في الاستعداد النفسي وفي بنية الشخصية لتقبل الخسارة الوجودية بين الفكر «ما قبل» الليبرالي، وبين الفكر الليبرالي، هو عامل مفصلي في فهم الدينامية التي تتحكم في وعي الأفراد في مرحلة الأزمة، ومعانيها. هذا «العناد» التاريخي على الرغم من عدم قدرته على الصمود طويلاً في حياة الفرد، نتيجة الواقع غير القابل للمساومة، إلا أنه يجعل من الفرد في حالة ذهول وصدمة ليس من السهل الخروج منها متماسكاً، وهذا نوع من أنواع خسائر الحرب في حياة المجتمعات. فالموجات الثورية تخرج من قلب حالة دمار وانهيار اجتماعي تكون غالباً دامية، ليس في بدايتها فقط بل في مسارها. هكذا كانت مسارات الثورة الروسية والصينية والكوبية والفيتنامية... ولكن نحن اليوم نعيش نوعاً خاصاً من الخسارة، يمكن تمسيتها بالخسارة الهجينة، التي هي تعبير عن الحرب الهجينة نفسها، التي هي بين التدمير الناري والتدمير الناعم.
دواعي للتفاؤل؟
ما نشهده إذاً، هو بحد ذاته خاضع لتأثيرات هذا الفكر السائد، فالانتقال في الوعي لن يكون سريعاً، بل هو يمر بعملية إعادة تشكيل حادة، فيها من الخسائر ما فيها. لننظر إلى البنية اللبنانية نفسها والوعي الشعبي فيها، والذي صدمته الأزمة وتسارعها كالصاعقة.
وهذا كله ليس خارج مدعاة التفاؤل الأساس، التي هي المسار السياسي البديل الذي يفتح أفقاً محتملاً، والذي دونه سينهار الوعي على ذاته، ويتعطل في بؤسه.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 973