«رسائل حول الإنكليز» لفولتير: عاصمة الضباب غيّرت مفكر التنوير

«رسائل حول الإنكليز» لفولتير: عاصمة الضباب غيّرت مفكر التنوير

حين كان فولتير في الثلاثين من عمره تقريباً، أواسط عشرينات القرن الثامن عشر، حدث خلاف بينه وبين شاب ينتمي إلى إحدى العائلات الفرنسية الثرية. إثر ذلك الخلاف، وطبعاً بصرف النظر عما إذا كان فولتير على خطأ أو على صواب، تمكنت العائلة الثرية، وكانت تنتمي إلى طبقة النبلاء، من جر فولتير أمام القضاء إلى العقاب، من دون محاكمة جدية، فأمر القضاء برمي المفكر الشاب في سجن الباستيل. لكن العائلة لم تكتفِ بذلك، بل سعت لدى القصر الملكي - وكان لويس الرابع عشر هو ملك فرنسا في ذلك الحين - إلى تشديد العقوبة.

وبالفعل أمر البلاط الملكي بنفي فولتير إلى إنكلترا، حيث سيقيم خلال العامين التاليين وأكثر. وهنا وعلى مبدأ «ربَّ ضارة نافعة» ستكون سنوات فولتير اللندنية، سنوات شديدة الخصوبة في حياته، من ناحية اطلاعه على ثقافات العالم، والقوانين الإنكليزية كما على أحوال إنكلترا في شكل عام. ولقد أنتجت تلك الفترة في حياته مجموعة من النصوص التي كان يدوّنها حيناً بعد حين، يتناول فيها ما كان يكتشفه ويتعلمه عن الأفكار والقوانين والفنون والأديان والثقافات في شكل عام في ذلك البلد المجاور الذي كان من حظ فولتير أن اكتشف فيه أفكاراً وشرائع ودساتير، اعتبرها أكثر رقيّاً وتقدماً وإنصافاً بكثير - من الناحية القضائية خصوصاً - مما كان معهوداً في فرنسا. رأى فولتير في شكل خاص أن القوانين الإنكليزية أكثر إنسانية بكثير من القوانين الفرنسية، وأن القضاءالإنكليزي أكثر عدلاً - أو على الأقل، أقل ظلماً - بكثير من نظيره الفرنسي، ناهيك بأنه أدرك أيضاً أن البلاط الإنكليزي لا يمارس الجبروت والظلم الممارسين في فرنسا من جانب البلاط الباريسي. وفي شكل عام، يمكن الإستنتاج أن من الواضح أن تلك الحقبة الإنكليزية أثّرت في فولتير، فكرياً وإنسانياً في شكل جذري، وهو ما يلاحظه المرء إن هو قرأ تلك النصوص. وهي نصوص جمعت للمرة الأولى تحت عنوان «رسائل فلسفية حول الإنكليز» لتنشر في كتاب مستقل عام 1734، في باريس. ولتنشر لاحقاً عام 1778، في طبعة أخرى، هي الطبعة التي عاشت حتى يومنا هذا، إنما تحت عنوان مختصر أكثر هو «رسائل حول الإنكليز». مع العلم أن فولتير كان كتب النصوص، أصلاً، في الإنكليزية، لكنه أعاد كتابتها في الفرنسية حين نشرها في كتاب، وأن معظم الطبعات الإنكليزية التي نشرت للكتاب لاحقاً، اعتمدت الترجمة عن الفرنسية، لا نشر النصوص في أصلها الإنكليزي كما كتبها صاحبها الذي كان يجيد الإنكليزية وقوّى إجادته إياها خلال إقامته القسرية في لندن.

هنا لا بد من أن نذكر قبل أن نتحدث عن هذا الكتاب، أن صدور طبعته الفرنسية الأولى عام 1734، لم يرق للسلطات الفرنسية التي وجدت فيه تمجيداً لكل شيء إنكليزي على حساب كل شيء فرنسي، ما استدعى نفي فولتير من جديد. لكن هذه حكاية أخرى. أما حكايتنا هنا، فهي هذا الكتاب الذي اعتاد الدارسون والمؤرخون مقارنته بواحد من أهم الكتب التي وضعها مفكر فرنسي آخر لا يقل أهمية عن فولتير في هذا المجال على الأقلّ، حول مجتمع متقدم آخر، وهو كتاب «الديموقراطية في أميركا» لآلكسي دي توكفيل الذي عاش ردحاً من حياته في الولايات المتحدة وعاد ليكتب عنها أول نصّ حقيقي وكبير، أنصف شعبها وجهودها وديموقراطيتها. والحقيقة أن هذا كان ما فعله فولتير نفسه بالنسبة إلى إنكلترا، خصوصاً أن غيظه مما كان حدث له في فرنسا، قوّى من إيجابية مشاعره تجاه الإنكليز، حيث اعتبر في كل فصل وفي كل صفحة من كتابه أن لديهم الكثير الذي يمكن فرنسا أن تتعمله منهم. وهو في مجال تأكيده هذا البعد «التعليمي» في كتابه لم يكتف بطرح الفكرة أو الشعار، بل كان يمعن تحليلاً وشرحاً، ما جعل كتابه المؤلف أصلاً من أربعة وعشرين «رسالة» يرتدي مسوح الكتاب الفكري والفلسفي الموسوعي العميق.

في الرسائل السبع الأولى من الكتاب، عالج فولتير، بإسهاب لافت، الأديان - أو المذاهب - التي كانت فاعلة ومنتشرة في شكل أساس في إنكلترا في ذلك الحين، لا سيما منها «الكويكرز» و «كنيسة إنكلترا» أو «الأنغليكانية»، ثم «البرسبيتيرية» وأخيراً «السوسيانية» أو «الآرياتية» - وفق تسمياته نفسها - وهو أفرد للكويكرز أربع رسائل، لأهميتهم العددية والتأثيرية، إذ وجد لديهم الكثير من الإيجابيات، فامتدح بساطة مذهبهم، لا سيما غياب منصب القساوسة المعتاد لديهم، حيث إن هذا الغياب كان يتماشى مع موقفه المضاد لرجال الكنيسة. وهو في المقابل، رأى أن «الأنغليكانية» تكاد تكون الكاثوليكية نفسها، مع بعض الخصوصيات الإنكليزية لافتاً إلى أن رجال الدين «الكاثوليك» في إنكلترا، هم «أفضل أخلاقاً من نظرائهم في فرنسا». أما البرسبيتيرية، فيبدو أنها لم ترقه بسبب تزمتها وتعصبها، في الوقت الذي يلحظ أن المذهب الرابع «السوسيانية» مذهب منفتح، يكاد يتطابق فكره مع فكره هو الخاص... وفي الرسالتين الثامنة والتاسعة، يتناول فولتير، السياسة في إنكلترا بادئاً بالسياسة البرلمانية. وهو في معرض المقارنة هنا بين ما هو إنكليزي وما هو فرنسي أو روماني، يشيد بالإنكليز وبرلمانهم، حتى وإن كان يأخذ عليهم ذلك المزج، في مجال توظيف الحروب، بين السياسة والدين، ما يشرّع الحرب دينياً، وهو أمر لا يُعرف له مثيل في روما. ويصل بعد ذلك إلى مسألة العدالة والضرائب، ليجد أن ما يتعلق بهما في إنكلترا متقدم جداً عما في فرنسا.

في الرسالتين العاشرة والحادية عشرة، يطل فولتير على مسألتي التجارة والعلم، ليقول كم إن تقدّمهما في إنكلترا، فتح هذه على العالم وحقق الازدهار فيها وفي... العالم. ولا يفوته هنا أن يعطي مثلاً مهماً على تقدم إنكلترا علمياً - وطبياً بالتالي - على فرنسا، حيث يذكر أن تقدم العلم في إنكلترا أنقذ الشعب من وباء، كان حصد في باريس وحدها 20 ألف شخص، «بسبب تخلف العلوم الطبية الفرنسية». والحقيقة أن تقدم العلوم في إنكلترا، يرتبط في ذهن فولتير بتقدم الفلسفة. وهذا ما يوضحه في رسائل عدة تالية من الرسالة 12 إلى الرسالة 17، على الأقل وهي رسائل يمكن إدراجها تحت اسم عام هو «بريطانيون شهيرون»، حيث يتحدث عن أولئك الأفراد الكبار الذين صنعوا ويصنعون الفكر الإنكليزي من اللورد بيكون إلى إسحق نيوتن مروراً بلوك وغيرهم حيث يتوقف هنا مطولاً عند المقارنة الإيجابية بين لوك وديكارت. أما بقية الرسائل، فإن فولتير يخصصها للآداب والشعر والفنون، بادئاً باستعراض تطور «التراجيديا» ثم «الكوميديا» واصلاً إلى تطور «الآداب الجميلة» فأشهر الشعراء بدءاً بألكسندر بوب. وهذا كله يوحي إليه برسالة مميزة عنوانها «النظرة التي يجب أن يخص بها أهل الأدب» منطلقاً من هنا إلى الحديث عن «الجمعية الملكية» التي تؤمّن رفعة الأدب ونظرة الناس إليه، كما عن بقية الجمعيات الأدبية والفكرية والفنية المنتشرة في إنكلترا في ذلك الحين.

في اختصار، أتت رسائل فولتير عن الإنكليز وكأنها موجهة، بخاصة، إلى الفرنسيين كي يتعلموا من جيرانهم ويكفوا عن اعتبار أنفسهم مركز العالم. ومن الأمور الدالة في هذا السياق، أن فولتير أصر لاحقاً على أن يضمّن الكتاب رسالة إضافية رقمها 25، يقيم فيها مقارنة نقدية بين فكره وفكر بليز باسكال، ويقول فيها مواربة إن صاحب «الأفكار» كان سيصبح صاحب فكر متطور أكثر لو أنه اطلع قبل كتابة «أفكاره» على ما يحدث في إنكلترا...

لقد ظل فرنسوا ماري آرويه الذي عرف باسم فولتير طوال حياته 1694 - 1778 متأثراً بتلك السنوات اللندنية، وظل فكره ينهل من كل تطور عرفه الفكر الإنكليزي، بخاصة أنه بعد عودته من لندن، راح يتابع بانتظام كل ما يصدر هناك وما يظهر من أفكار، وهذا ما جعله في كتبه التالية، لا سيما منها الكتب الفلسفية والفكرية في شكل عام مثل «القاموس الفلسفي» و «زاديغ» و «7 خطابات شعرية حول الإنسان» و «ما يعجب النساء»... إلخ يعتبر دائماً الأكثر إنكليزية بين كتّاب الفرنسية ومفكريها.

 

المصدر: الحياة 

آخر تعديل على السبت, 08 آذار/مارس 2014 21:19