الماركسية في عالم متغير (2 - 2)
نبه بيان الحزب الشيوعي إلى أنّ استيراد الآداب الاشتراكية والشيوعية الفرنسية إلى ألمانيا دون استيراد الظروف والأوضاع التي نشأت فيها، ليس أكثر من عبث فكري لا طائل منه (صفحة 73)، لذلك فإنّ مفهومات الشيوعيين النظرية لا ترتكز مطلقا على أفكار أو مبادئ اكتشفها أو اخترعها مصلح من مصلحي العالم، بل هي التعبير الاجتماعي عن الظروف الواقعية لنضال طبقي موجود ولحركة تاريخية تتطور من ذاتها أمام عيوننا (صفحة 58)،
وعليه فإنّ لينين لم يجد حرجاً من التحذير من «تفسخ عميق في الماركسية بسبب ترديد شعارات محفوظة عن ظهر قلب دون فهم أو تأمل، أدت إلى انتشار ضرب من التعابير الجوفاء انتهت بميول برجوازية صغيرة مناهضة للماركسية، التي ليست مذهباً منتهياً جاهزاً ثابتاً لا يتغير، بل مرشد حي للعمل لا بد أن يعكس التغير الفريد في ظروف الحياة».. لينين- في الإيديولوجية والثقافة الاشتراكية (صفحة 69)، حيث أنّ جميع الحدود في الطبيعة والمجتمع شرطية ومتحركة، وبالتالي فإنّ جميع التعاريف بوجه عام هي ذات طابع شرطي نسبي، وإنها لا تستطيع أبدا أن تشمل جميع وجوه علاقات ظاهرة في حالة تطورها الكامل.(لينين الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية، الصفحتين (120 - 121).
الحزب الشيوعي وديكتاتورية البروليتاريا
جاء في بيان الحزب الشيوعي تحت عنوان «الشيوعيون والبروليتاريون» أنّ الشيوعيين لا يدعون إلى مبادئ خاصة يريدون تكييف الحركة البروليتارية في قالبها، إنّما الذي يميزهم عن باقي الأحزاب البروليتارية الأخرى هو هويتهم الأممية التي تجعلهم يبرزون المصالح المستقلة عن الجنسية والعامة الشاملة لمجموع البروليتاريا. (البيان، صفحة: 57)، ممّا يطرح السؤال فيما إذا كانت هذه الميزة تعطيهم احتكار نضال الطبقة العاملة؟
يجيب البيان على ذلك، وتحت العنوان نفسه، بأنّ الشيوعيين لا يؤلفون حزباً خاصاً معارضاً لأحزاب العمّال الأخرى، بل إنّ تنظيم طبقة البروليتاريا من أجل سيادتها والظفر بالديموقراطية هو هدف لهم ولجميع الأحزاب البروليتارية، أمّا التدابير المتخذة في سبيل ذلك فهي تختلف «طبعاً» في مختلف الأقطار، وكما أنّ أشكال الدول البرجوازية في منتهى التنوع، ولكن كنهها واحد فكذلك إنّ الانتقال من الرأسمالية لا بدّ وأن يعطي وفرة وتنوعاً هائلين من الأشكال السياسية، ولكن فحواها ستكون لا محالة واحدة.. (ديكتاتورية الروليتاريا- لينين، الدولة والثورة صفحة 37)، فالماركسية لم تضع في يوم من الأيام نصب عينيها مهمة كشف الأشكال السياسية للمستقبل، وإلاّ فقد كان من المحرج حقاً أن نقف مكتوفي الأيدي أمام التحديد الصارم لتلك الأشكال. (لينين، المؤلفات، الجزء: 27، صفحة 310)، لهذا لا نجد سواءً في مؤلفات واضعي نظرية الشيوعية العلمية أو في وثائق الحركة الشيوعية العالمية تأكيدات بأنّ الاشتراكية تستبعد نظام تعدد الأحزاب. كتاب (الاتحاد السوفييتي، دليل اقتصادي سياسي، دار التقدم – موسكو: صفحة 176)، لأنّ مدى ديمقراطية هذا النظام الاجتماعي أو ذاك، لا يقاس في آخر المطاف بعدد الأحزاب المساهمة في قيادة المجتمع، بل إنّ جوهر الديمقراطية تحدده في المقام الأول عائدية السلطة وثروات البلاد المادية والروحية في المجتمع المعني، هل تعود إلى حفنة من الرأسماليين أم إلى الشعب بأسره؟.. (المرجع السابق، صفحة 177)، مع الأخذ بالحسبان أنه لا يمكن للمرحلة الأولى من الشيوعية أن تعطي العدالة والمساواة، بل تبقى فروق في الثروة، وهي فروق مجحفة، ولكن استثمار الإنسان للإنسان يصبح أمراً مستحيلاً، لأنه يصبح من غير الممكن للمرء أن يستولي كملكية خاصة على وسائل الإنتاج، على المعامل والآلات والأرض وغير ذلك.. (لينين، الدولة والثورة، صفحة: 99).
في ضوء ما سبق يكون من غير الجائز ماركسياً القول إنّ ديكتاتورية البروليتاريا تفترض شكلاً معيناً لممارسة السلطة، حيث أنها بالقياس إلى الرأسمالية هي «مجرد» نموذج أعلى لتنظيم العمل في المجتمع، لا تعني فقط استعمال العنف إزاء المستثمرين - بكسر الميم - بل إنها لا تعني أساسا استعمال العنف. (لينين، في الإيديولوجية والثقافة الاشتراكية، صفحة 115)، لذلك فهي مبادئ عامة للحكم وليست شكلاً له، ممّا يطلق عليه في الفقه القانوني والسياسي «نظام عام»، كما هي عليه الحال في كثير من الدول مثل مبادئ العلمانية في تركيا، أو ولاية الفقيه في إيران، ممّا يسمح بالتالي بقيام أحزاب تتداول السلطة فيما بينها، ولكن ضمن مبادئ أساسية تمنع استغلال الإنسان للإنسان.