حدث ذات حزيران
في البداية لم يفهم الطفل ذو الأحد عشر ربيعاً ما حدث. أفاق ذات صباح حزيراني ليسمع الكبار يقولون: إنكسر العرب..
* * *
لم تسمح له العيون الذاهلة، والحركات المتوترة، ونبرات الصوت الحادة، أن يسأل عما جرى، لكن «إنكسر العرب» تغلغلت في كل مسامة من مسامات روحه وجسده الغض، ولسوف يكون هذا اليوم: الإثنين، الخامس من حزيران، لسنة 1967م، آخر عهده بالطفولة، ونقطة التحول في وعيه وشخصيته.
ومذَّاك فصاعداً، سيبدأ بالسؤال والإصغاء والتدقيق والتأمل والمراجعة.
وسيبدأ بقراءة –لا كقراءاته القصصية السابقة- بل لكل ما له صلة بالسياسة والحرب والتاريخ وتراجم القادة..
والأهم: سيتولد لديه شعور عميق بـ«المأساوية» –إن صح التعبير- يختلط فيه الحزن بالغضب. شعور، اكتسبه، ربما، من الأيام الأولى للحرب، حينما سمع صراخاً في بيت مجاور، ليتبين أن جارهم قد قتل بصَلية من إحدى الطائرات الاسرائيلية المغيرة على المطار القريب من حي «المحطة» في عمان حيث يسكنون. وربما اكتسبه من مرأى آلاف الآلاف من النازحين الذين تجمعوا في المدارس والمساجد. أو من مشاهدتهم يعبرون هائمين تائهين نهر الأردن («الشريعة» كما كان يُسمى)، حينما كان يذهب مع والده –الجندي في سلاح الجو وقتها- ويراه وهو يحاول أن يحجب دموعه في عينيه..
لكن أهم ما أحدثه فيه هذا اليوم وما تلاه، كان الشعور بالمسؤولية إزاء ما يجري. وهو ما سيُعاينُه ويختبره لاحقاً، عندما تحولت المشاعر والمشاهدات والمعلومات، إلى وعي حادٍ مُصمِّمٍ قرر مسيرة حياته.
كيف لا، وهو الذي ورث عن أبيه «عناده» في المضي قدماً وراء ما يعتقد، وحمل اسم رفيق أبيه في «جيش الجهاد المقدس» الذي استشهد خلال معارك (1948م) دفاعاً عن القدس؟
* * *
أولى تعبيراته عن رفض الهزيمة، جاءت بعد شهور قليلة، عندما استؤنفت الدراسة، وكان في الصف السادس الإبتدائي، حينما دخل مدير المدرسة غرفة الصف، ليطلب إلى الطلاب أن يرسموا..
فرسموا: مدمرة بحرية «اسرائيلية» اسمها «إيلات» تغرقها صواريخ البحرية المصرية البطلة.
واختار المدير «رسمَه» ليعرضه على الطلاب.
وحينما وزعت عليهم إدارة المدرسة «علب سردين» –كتضامن من إحدى الدول العربية المغاربية- صاح بعض الكبار: إرموها.. إرموها..
وتعالى هتاف:
«بدنا سلاح مش سردين = بدنا نحرر فلسطين»
وتأججت صيحات الصغار الغاضبين مدوية في الأرجاء.
* * *
في الربيع، في آذار- مارس 1968، طلبت إدارة المدرسة، أسوة بالمدارس الأخرى، من الطلاب مغادرة الصفوف والعودة إلى منازلهم بنظام..
لماذا ؟ تساءلوا ؟
حرب.. حرب دايرة..
والحرب الدائرة كانت «معركة الكرامة» المجيدة.
في اليوم التالي خرجت «عمان» ومن توافد إليها من المواطنين، لتشيِّع الشهداء من المسجد الكبير «الحسيني»، فيما ترددت هتافات ضارية:
اليوم يوم الكرامة.. اليوم يوم الكرامة..
و: «يا شباب العُرْب هبوا = ليس بعد اللهِ ربُّ»
وفيما بعد شاهد الطفل بفرح وحماسة، الدبابات والعربات «الإسرائيلية» المدمرة معروضة في ساحة «أمانة العاصمة» بجانب المدرج الروماني.
ومنذ هذا اليوم، سترسَخُ في وعيه ووجدانه، الثقة بقدرة الجندي والمقاتل العربي على الإشتباك والانتصار، ولن تُزعزع هذه الثقة، كلُّ الكتابات والخطابات المثبطة، التي قرأها وسمعها فيما بعد.
* * *
كبر الطفل منذ حزيران 1967م كثيراً. ولاحظ –فيما بعد- أن الأطفال، والناس عموماً، يكبرون وينضجون في أوقات الحروب والمآسي بسرعة أكبر بكثير مما هو معتاد في دورات الحياة الطبيعية.
واليوم، ورغم أن حزيراناتٍ كثيرة مرَّت، ما زالت فيها «اسرائيل» تحتل الأرض العربية، لا يزالُ «طفل حزيران» رافضاً للقبول بالهزيمة، ولا يزال على وعيه وعهده القديمين، موقناً بقدرة العرب على القتال والإنتصار..
وإن صار يدرك أن الهزيمة تقع في مكان آخر:
في السياسات والأنظمة العربية..
• نشرة كنعان