السكان عبر آلاف السنين، وأزمة الرأسمالية
إن تتبع نموّ حركة السكان خلال التاريخ البشري مترابط شديد الترابط مع الصراع الإجتماعي والإنتقال من نظام إنتاجي إلى آخر، وهذا التتبع يعطينا ملامح عن الفروق النوعية بين هذه الأنظمة أيضاً. وحركة نمو السكان التاريخية، ونسبة هذا النمو، في ارتفاعها وانخفاضها على السواء، تعطينا صورة حيّة عن مراحل الانتقال من تشكيلة اقتصادية- اجتماعية إلى أخرى، أي الأزمات العامة التي تعصف بأنظمة الإنتاج التاريخية، وتعطينا كذلك صورة عن الأزمات الدورية داخل كل نظام منها. أما اليوم، أين هي هذه الحركة، وما هو أفق تطورها؟ وكيف تدعم التصور القائل بأزمة الرأسمالية العميقة والعامة؟ باختصار، كيف تمثل حركة السكان التاريخية التعبير الواضح عن التناقض بين القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج، وعن السياسات المالتوسية للرأسمالية راهناً؟
التسارع التاريخي بشكل عام
يعيش اليوم على الأرض حوالي 7,7 مليار إنسان. ولكن خلال مئتي ألف عام مضت تطورت حركة نمو السكان ونسبتها بشكل نوعي. وكانت كل قفزة في نمو السكان ترتبط بتطور القوى المنتجة الذي أتاحه الانتقال من نظام اجتماعي إلى آخر. فالأرقام المدونة تقول بأن عدد السكان حافظ على رقم ما دون الـ10 مليون إنسان خلال بداية مرحلة العبودية (منذ الـ10 آلاف سنة قبل الميلاد التي قدرت فيها بـ4 مليون فقط)، وصار في مرحلة الانتقال إلى الإقطاعية حوالي الـ225 مليوناً، واستقرت هذه النسبة طوال مراحل أفول العبودية تقريباً. ومن ثم تضاعفت في مرحلة الإقطاع (من القرن السابع) لتصل إلى حوالي 475 مليوناً ما بين عام 1315 و1351. وكانت أزمة النظام الإقطاعي، ربطاً بالمجاعات والطاعون مثلاً في أوروبا، قد خفّضت هذا العدد بشكل كبير، لتصل نسبة السكان في عام 1400 إلى حوالي 390 مليوناً. هذاه الانخفاض عبر عن تعقد البنية الإقطاعية في أوروبا مثلاً أكثر من مرحلة العبودية، فالتأثير الكبير لوباء كالطاعون مثلاً جاء نتيجة خط التجارة بين آسيا وأوروبا (حيث اعتبر أن الطاعون انتقل من آسيا إلى أوروبا عبر خطوط التجارة تلك)، وفي مراحل الرأسمالية المبكرة وحتى أعوام 1800 زادت هذه النسبة إلى المليار، أي تضاعفت حوالي المرتين ونصف المرة تقريباً.
فالبشرية تطلبت إذاً حوالي 200 ألف عام لتبلغ المليار الأول، بينما زيادة الـ6,7 مليار الأخرى فقد حصلت خلال الـ200 عام الأخيرة فقط! أي بنسبة تسارع تاريخي في النمو بلغ حوالي الـ1000 بين الرأسمالية وكل التشكيلات السابقة. هذا التسارع مردّه التطور الهائل الذي حصل للقوى المنتجة خلال المرحلة الرأسمالية، ومنذ العام 1800 تحديداً، أي مرحلة نضوج السوق العالمية للرأسمالية وتوسعها، هذا التطوّر الذي شدد عليه ماركس.
وهذا التسارع حصل ضمن التطور في البنية الرأسمالية نفسها أيضاً. فالمليار الثاني تطلب الوصول إليه حوالي 124 سنة من العام 1803 وحتى العام 1927. بينما المليار الثالث تطلب فقط 33 سنة (عام 1960)، أما المليار الرابع تطلب فقط 15 عاماً (عام 1975)، والخامس تطلب 12 عاماً (1987)، والمليار السادس والسابع تطلبا أيضاً 12 عاماً لكل منهما (1999 و2011 على التوالي).
الصراع ضمن الرأسمالية وضغط القوى المنتجة
كما نرى، إن المرحلة الممتدة من عام 1800 وحتى عام 1927 (127 عاماً)، أي مرحلة التوسع الرأسمالي، دفعت بتطور القوى المنتجة ومنها القوى البشرية بشكل كبير جداً نسبة لما قبل الرأسمالية. ولكن منذ الـ1927 تسارع هذا التطور حوالي الـ 4 أضعاف. وهذا مردّه إلى ظهور الاشتراكية على مسرح التاريخ. والمؤشر المباشر هو تطور عدد سكان روسيا والصين مقارنة بأوروبا مثلاً وباقي دول العالم. فروسيا زادت نسبة السكان 50 مليوناً تقريباً من حوالي 95 مليوناً (1927 عام إنهاء الحرب الأهلية الروسية بعد الثورة البلشفية) إلى حوالي 145 مليوناً (عام انهيار الاتحاد السوفييتي) أخذاً بعين الاعتبار خسائر الحرب العالمية الثانية، بينما زادت الصين منذ العام 1949(عام تأسيس الصين الشعبية) من 546 مليوناً إلى مليار تقريباً قبل بدء تطبيق «سياسة الإصلاح والانفتاح» فقط، أي في الثمانينات من القرن العشرين. أي تطور بلغ الضعف خلال عقدين تقريباً (بينما تطلّب الصين قبل الاشتراكية حوالي الـ150 عاماً لتزيد 200 مليوناً فقط). بينما على المقلب الآخر، لم تضاعف أوروبا عدد سكانها خلال تلك الفترة (حوالي 500 مليون في أواخر العشرينات، وحوالي 720 في التسعينات). ولكن إذا ما أخذنا نسبة السكان في آسيا مثلاً تحت تأثير الثورات الاشتراكية فهي تضاعفت، في تلك الفترة، ثلاث مرات تقريباً من مليار واحد إلى 3 مليار.
وهذا النمو لم يكن ليحصل لولا تحرر القوى المنتجة نسبياً وضمن مرحلة تاريخية محددة من كبح علاقات الإنتاج. حيث وصل هذا النمو ذروته عالمياً بين 1960 و1970 حيث وصلت النسبة عالمياً إلى 2,1%. وبدأت بعدها هذه النسبة بالتراجع إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الأزمات التي بدأت تعصف بالتجارب التقدمية والاشتراكية عالمياً، وتقدم قوى رأس المال. لتصل هذه النسبة اليوم إلى حوالي الـ1% فقط. وهذه النسبة مرشحة للانخفاض، تحقيقاً للمالتوسية الجديدة عبر الأمراض والأوبئة والجوع والحروب والفقر والكوارث الطبيعية، وتعبيراً عن تدمير الرأسمالية لقوة العمل عبر تداخل ضرب البنية العقلية- الجسدية للإنسان.
عودة إلى أزمة التشكيلة
يمكن القول اليوم، أن هذا الانخفاض في نسبة النمو السكاني، الذي سيصل حسب بعض التوقعات إلى الصفر، هو تعبير مباشر عن التناقض الحاد بين القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج، حدّ الإبادة. خصوصاً في ظل الأزمة العميقة العالمية، بتداخلها مع كورونا مؤخراً. واليوم ليست المسألة فقط هي استعادة النمو وتحرير القوى المنتجة، بل الحفاظ على الجنس البشري كلّه.
وإذا ما استبعدنا مسألة استغلال القوى البشرية العالمية في الدول التابعة من قبل رأس المال العالمي عبر التقسيم العالمي للعمل، إلا أن هذا المستوى من تطور القوى المنتجة عالمياً لم يكن ليحصل لولا تبلور النقيض الاشتراكي. فجدلية الصراع والوحدة أساس لفهم تطور كلا النقيضين. وإذا ما استبعدنا أيضا مسألة التحول الثقافي في نمط الحياة الذي أضعف الدور النفسي والمعنوي لفكرة الإنجاب لدى الكثيرين، إلا أن هذا ليس هو المؤشر الأبرز على التراجع الكبير في نسبة النمو السكاني.
تجاوز الأزمة، وما بعد كورونا؟
إن احتمالات تجاوز الأزمة العالمية للرأسمالية، تحافظ على الوجود البشري من فنائه التدريجي والمحتوم، وتفتح أفق قفزة جديدة للقوى المنتجة، ربما هذه المرة ليس بتطور كبير في عدد السكان المرتبط تاريخياً بالحاجة للطبقة العاملة اليدوية كأساس في نظام العمل المأجور الذي تعودنا عليه، بل ربما سيتعاظم دور التكنولوجيا، ليخلق ذلك توازناً مُداراً بين الحفاظ على النوع (الذي سيلعب العلم دوراً بارزاً في ذلك) وبين العمل الذهني الأكثر حضوراً. ولا تزال آسيا تحديداً الخزان البشري الأكبر لهذا النهوض إنتاجياً وعلمياً، فهي تحتضن أكثر من 60% من سكان العالم. هذا التحرر يمكن أن يحصل في ظل نظام اقتصادي اجتماعي يحرر هذه القوى المنتجة، ويعظم من دورها التاريخي في عملية التطور، لا كقوى منتجة عاملة يدوية فقط، بل ترتقي مساهمتها العلمية عبر فتح المجال لعملها الذهني، وتطوير دور العلوم، ودورها السياسي المباشر في إدارة حياتها ومصيرها، عبر تحقيق اشتراكية القرن الحادي والعشرين.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 958