اختناق الوعي أمام اختناق الواقع
لا يمكن للفِكر أن يقفز خارج الواقع، فالواقع يحدِّدُ حدود الفكر وإمكاناته، يؤمّن مادّته وبنيته أيضاً. وعلى هذه العلاقة لا يبنى فقط فهم إبداعات الفكر وقفزاته، بل أزماته كذلك، وحقيقته. وما نفع هذا الكلام المجرّد؟ إنه يشكِّل نقطة انطلاق لفهم أزمة الوعي في العالم عامّة اليوم، وأزمة الفكر الليبرالي خاصّة، وبالتالي تحديد إمكانات العمل ضمن هذه الأزمة. فاليوم لا يوضعُ بلدٌ واحدٌ فقط أمام حقيقة حالة حربِ يومية على كل الجبهات، بل إن العالم كلّه انكشفت فيه حالة الحرب السّاخنة وتداعياتها، والتي كانت مستترة في العقود الماضية تحت تأثير «الفيروس الليبرالي» كما يسميه سمير أمين.
انفجار التناقضات المتزامن
إن اشتداد تناقضات الإمبريالية كنظام يربط العالم بعلاقاته أدَّى إلى انفجار أزمات اقتصادية وسياسية واجتماعية شاملة، ووجودياً، صار مهدِّداً للبشرية والطبيعة على حد سواء. والأزمة كانت تتطوّر تصاعدياً، وبشكل غير متزامن من حيث ميادين ظهورها. فالأزمات البيئية والطبيعية مثلاً ظهرت إما بعنف كالأعاصير والحرائق، أو ببطء كذوبان القطبين مثلاً، على مدى العقود الماضية. بينما انفجرت الأزمات السياسية والاقتصادية بشكل متباعد جغرافياً منذ أواخر التّسعينات وحتى اليوم. ولكن منذ انفجار الأزمة المالية في الـ 2008 بدأت النار تتلاصق، فاشتعال المنطقة العربية حتى حدود الصين، يتزامن مع اشتعال القارة الأمريكية الجنوبية بغالبها، مع أزمة المملكة المتحدة، وأزمات إفريقيا. بالترافق مع الأزمات الطبيعية التي صارت أكثر تواتراً، بالتوازي معها هناك تصاعد الأمراض العقلية والجسدية التي تلتقي على بابها الأزمة البيئية والأزمة الاجتماعية- الاقتصادية وانهيار نمط الحياة كلّه.
اختناق الحركة واختناق الوعي
هذا التزامن في انفجار التناقضات بدأ شيئاً فشيئاً يخنِق هامش الحركة «الحرّة» في العالم، ومعه بدأ اختناق الوعي بملامحه الليبرالية أيضاً. وفي حين أن اختناق الحركة ظهر لدينا مبكراً من باب أزمة البنية التبعية وضيق هوامش مناورتها، وتعفّنها ربطاً بمحاولة الإمبريالية إحراق المنطقة والعالم، فإن اختناق الحركة عالمياً يجري نتيجة تلاقي كل الأزمات مجتمعة، وآخر عاملٍ مثلاً، هو انتشار فيروس «كورونا» في الصين.
ففي الحرب العراقية مثلاً هاجر العراقيون إلى دول الجوار وسورية تحديداً، وأوروبا، وغيرها. ولاحقاً صارت تضيق هوامش الهجرة. حتى هامش الهروب صار ضيقاً ومغلق الأفق حتى وإن حصل. فالعالم كله يعيش اشتعالاً طبيعياً- بيئياً أو سياسياً أو اقتصادياً.
هذا الاختناق في الحركة أنتج اختناقاً في الوعي، وأزمة في الفكر الليبرالي على مستوى العالم. وأمام الوحدة التي نتجت عن الترابط الشديد بين المجتمعات والدول، نتجت أيضاً وحدةٌ على مستوى الوعي. وهذا الوعي أمام أزمة حقيقية اليوم، فلا حلول إصلاحية بسيطة لحل القضايا المطروحة، ولا هامش للهروب والحركة على مستوى العالم، فالأزمة العميقة لا تسمح بالتفكير بموجات الهجرة التي حصلت منذ عقود مضت إلى إفريقيا وأوروبا وغيرها، ولا تسمح بالنجاح (الفردي) اقتصادياً أمام تداعيات الانكماش وغيره، فالأزمة الاقتصادية شاملة للجميع.
إذاً، أزمة الفكر الليبرالي (ومجمل ملامح الفكر الرأسمالي) لم تعد أزمة يتم استنتاجها من خلال الممارسة على المدى المتوسط، بل صارت حالة آنية وملحّة. العالم ليس كما صَّور من قبل الليبرالية، ولا مكاناً للهرب أساساً، فهذا الهرب من بؤر الاشتعال والعيش في المساحات غير المشتعلة يسمح للفكر بالتنصل من الحقيقة. أي حالة الحرب القائمة فعلاً ضد البشرية التي لم تتوقف يوماً طوال الـ 500 العام الماضية. إنها أزمة الليبرالية، وقد صارت عامة للكوكب على مستوى الوعي. حالة الحرب هذه تُظهر أن دولة اعتبرت «شاذة» ككوريا الشمالية كونها كانت تعيش حالة حرب دائمة، يمكن أن يراها العالم اليوم دولة تُشبِه ضرورة التاريخ. فالتخلي عن وضعية حالة الحرب (الشاملة الوجودية وليس بالضرورة ذات الطابع العسكري الشكل فقط) يعني الابتعاد عن الواقع.
انعكاس الانغلاق وهامش عمل المشروع النقيض
يعتبر لينين أنه، وفي لحظات الأزمات بالذات، على خط التغيير أن يتوجّه إلى مجمل الفئات الاجتماعية، والعمل على ترجمة الوحدة الموضوعية التي تنتجها الأزمات بين أوسع الفئات الاجتماعية، والتوجه ذلك هو حسب كيف تعيش كلّ فئة الأزمة من موقعها الطبقي وظروفها بالذات. فالانحصار في التوجه إلى الطبقة العاملة وحده في لحظات احتدام الأزمة السياسية والاجتماعية يعني التنازل عن طاقات اجتماعية كبيرة. وما بالنا اليوم والبشرية كلها تعيش أزمة صارت ثابتة، وتلخيصها أن الخراب يعمُّ العالم.
هذا الواقع يتطلب تقديراً عالياً لدى قوى التغيير الثوري حول إمكانية العمل نحو البشرية كلّها. ومدخل العمل، هو اختناق الفكر الليبرالي نفسه، على أساس اختناق هامش الممارسة والحركة في أرض الواقع. فانعدام هوامش الحركة، يعني أن هوامش الفكر أيضاً تُغلق، وما الفكر الليبرالي إلا هوامش تنفتح على هوامش، ومنها إلى هوامش، وهمٌ كلّها.
فشعار «السلام» الذي ساد في القرن الماضي صار اليوم شعار «البقاء للبشرية». هذا من أهم فضاءات الفعل لقوى التغيير الثوري مثلاً. واختناق الليبرالية عالمياً يسمح وبكل قوة أن يتقدم النقيض في هجومه، ولو تم ذلك على الجبهة الإيديولوجية ليلتقط المبادرة، ويمتد إلى باقي الجبهات خلال تقدمه.
إنَّ انغلاق الحركة الشامل لكل العالم، بالتلاقي مع الأزمة الاقتصادية والسياسية، يمكن أن نقول فيه إنه يُغلق آخر هامش للمناورة أمام القوى الطبقية الوسطى تحديداً، التي كانت لا تزال تملك هذا الهامش، أو حتى وهم هذا الهامش، ويشكّل تلك الكتلة التاريخية التي يمكن مخاطبتها والتوجه لها حسب تعبير لينين أعلاه.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 951