«المجتمع الاقطاعي» لمارك بلوك: البحث عن الإنسان في حركة التاريخ

«المجتمع الاقطاعي» لمارك بلوك: البحث عن الإنسان في حركة التاريخ

تعتبر الفصلية العلمية الفرنسية المعروفة اختصاراً باسم «الحوليّات»، ومنذ زمن بعيد، واحدة من أهم المطبوعات التي جدّدت في القرن العشرين في مسألة التعاطي مع التاريخ والدراسات التاريخية.

صحيح انها جدّدت، في معنى انها اضافت جديداً الى أساليب وتيارات ومفاهيم كانت قائمة من قبل، غير أن تجديداتها في بعض الأحيان كانت جذرية، وفي أحيان أخرى اضاءت على تجديدات سابقة عليها، كانت مطمورة وسط ركام من الأفكار المسبقة والتفسيرات الايديولوجية. وإذ نقول هذا يرد الى الذهن بخاصة من بين تلك التجديدات السابقة على «الحوليّات»، وعلى سبيل المثال، بعض كتابات ماركس وأنغلز غير الايديولوجية، وبعض دراسات لينين لا سيما منها تلك الدراسة المتعلقة بالاقتصاد الروسي، وأعمال جورج سيمل لا سيما ماكس فيبر. في كل هذه الأعمال عومل التاريخ في شموليته «الخلدونية»، إن جاز لنا القول، بحيث كف عن أن يكون حديث حروب ومعارك وملوك وأحداث انعطافية كبرى، ليصبح حديث التبدلات الصغيرة وخصوصاً على الصعد الاجتماعية والاقتصادية والسكانية. هذا البعد في دراسة التاريخ الذي كان نتفاً وإنتاج أفراد مميزين، جاءت فصيلة «الحوليّات»، وفي شكل عام، المدرسة الفكرية التي تنتمي اليها لتمنهجه، انطلاقاً من ماركس وماكس فيبر، ومجمل منتجات الفلسفة وعلم الاجتماع والاقتصاد وصولاً الى انجازات مدارس التحليل النفسي وعلوم الجمال وما شابه ذلك، لتنتج بالتالي نظرة جديدة الى التاريخ. ولنقل في اختصار: نظرة تؤنسن التاريخ.

طبعاً نعرف أن مدرسة «الحوليّات» وفصليّتها لم تكونا من إبداع أو انتاج مفكر واحد، مثلها في هذا مثل «مدرسة فرانكفورت» للعلوم الاجتماعية التي تأسست في المانيا قبل ذلك بفترة. غير ان هذا اليقين البديهي، لا يمكن أن ينسينا انه تماماً كما أن في خلفية مشروع «مدرسة فرانكفورت» كان هناك شخص أو شخصان أطلقا المشروع، هما ماكس هوركهايمر وثيودور آدورنو، كذلك كانت الحال بالنسبة الى «الحوليّات»، حيث نجدنا دائماً، وسط زحام الأسماء الكبيرة التي انتمت اليها، أمام اسمين أساسيين، حملا عبء المشروع منذ البداية، وهما لوسيان فافر، ومارك بلوك. والحقيقة أن هذين الاسمين يردان دائماً في مجال الحديث عن «الحوليّات» حتى وإن كان الحديث يشير الى أعمال وإسهامات مؤرخين فرنسيين كبار من الذين ارتبطوا بهذا التيار من أمثال فرنان بروديل وجورج دوبي وجاك فوفيل وغيرهم. ومع هذا تبقى لمارك بلوك مكانة أساسية ومميزة، بفضل مؤلفاته التي أبكرت في فرادتها، ولكن أيضاً بسبب اعتقاله من جانب النازيين خلال الحرب العالمية الثانية وتقاعسهم في مداواته حين أصيب بمرض ما جعله يسلم الروح وهو في المعتقل. غير أن الأساس في حياة بلوك وإنجازاته، ليس هذه النهاية بالطبع، بل انجازاته الفكرية التي لعل أهمها الجزآن اللذان يتألف منهما كتابه العمدة «المجتمع الإقطاعي».

لم يكن كتاب بلوك عن هذا المجتمع، الأول من نوعه، وفي مجاله. كانت هناك كتب ودراسات عدة حول هذا الموضوع. غير ان كتاب بلوك كان مجدداً في هذه الدراسة وفي شكل جذري. مجدداً الى درجة أنه اعتبر دائماً احد أهم الدراسات التي ارتبطت بتيار «الحوليّات». وقد صدر الجزء الأول منه سنة 1939، بعد عشرة أعوام من تأسيس «الحوليّات»، أي بعدما كان بلوك نشر عشرات الدراسات في هذا المجال. أما الجزء الثاني فصدر في العام التالي 1940. أي في العام نفسه الذي هزمت فيه فرنسا على يد النازيين، فما كان من بلوك إلا أن ألّف بسرعة كتاباً عنوانه «هزيمة غريبة» لم ينشر إلا بعد موته، لكن المعلومات عنه تسربت بما يكفي لإثارة نقمة النازيين عليه واعتقاله. والحقيقة أن كتباً عدة لمارك بلوك نشرت بعد موته، لكن معظمها كان قد نشر فصولاً قبل ذلك في فصليّة «الحوليّات» التي أسسها مع فافر سنة 1929، ناهيك بكتاب أساسي له هو «حرفة المؤرخ» تركه مخطوطاً لدى اعتقاله.

كما يدل عنوانه، يبحث «المجتمع الإقطاعي» في تاريخ هذا المجتمع، السابق على الثورة الصناعية عموماً. لكنه يبحث في هذا التاريخ في شكل جديد. في شكل يعطي المكانة الأولى لإنسان ذلك المجتمع نفسه. ذلك أن مشروع بلوك الأساس في وضعه هذا الكتاب كان ينطلق من رغبته في دراسة «ذهنية انسان المجتمع الإقطاعي»... وفي شكل أكثر تحديداً هنا، ذهنية انسان القرون الوسطى حين كان المجتمع الإقطاعي في ذروة ازدهاره وفي ذروة انعكاسه انماطَ عيش وعلاقات وسلوكاً. في هذا السياق لم يكتف مارك بلوك بدراسة الماضي، ولا حتى في استمراريته في الحاضر، بل درس الزمن في جوهره، أي في الكيفية التي عاشه بها الانسان. ومن هنا ما قاله دارسو فكر بلوك من أن مساره الفكري تجاوز الإطار التاريخي ليصبح شبيهاً بما يفعله علماء الإناسة من الذين ينكبون على دراسة الانسان البدائي، انطلاقاً من وضع انفسهم، فكرياً، في مكانه والتفكير على النسق الذي يفكر هو به. من هنا يتبدى الجزء الأول من كتاب «المجتمع الاقطاعي» وكأنه مكتوب بقلم انسان عاش ذلك المجتمع وراح يفكر مثلما يفكر أهله. وبهذا أجمع الدارسون على أن بلوك انطلاقاً من هذه الصياغة قدّم، ليس فقط أفضل فهم لذلك المجتمع، بل كذلك منهجاً متجدداً لدراسة التاريخ وفهمه... وفي شكل أكثر تحديداً، لفهم الانسان خلال مرحلة أساسية من مراحل تكوّنه. وإذ بات واضحاً أن دراسة هذا الانسان في زمنه وفي بيئته تفترض اللجوء، ليس فقط الى التاريخ، بل كذلك الى شتى ضروب المعارف الانسانية، رأى الدارسون ان مارك بلوك قدّم هنا محاولة جدية وجريئة لتجديد أطر مسألة التاريخ.

في الجزء الأول، اذاً، سعى مارك بلوك الى إعادة بناء البيئة القروسطية التي عاش انسان المجتمع الاقطاعي في داخلها وتبعاً لشروطها... مؤسّساً جزءاً أساسياً من بحثه على دراسة الغزوات البربرية والنتائج التي تمخضت عنها، منتقلاً بالتالي الى تحديد المناخ الذهني الذي هيمن على انسان ذلك الزمن. ما أوجد لديه ما سماه بلوك «اسلوب التفكير والشعور الجديد»، هذا الأسلوب الذي يعتبر اشتغال بلوك عليه في هذا السياق نموذجاً، سيتبع كثيراً لاحقاً، في مجال دراسة الحضارات. وبعد ذلك ينتقل المؤلف من دراسة الاطار البيئي العام الى دراسة علاقة الإنسان بالإنسان، في شكل يصنع الإطار العام لدراسة الأرضية التي صنعت المجتمع الاقطاعي. ولعل أهم أجزاء هذا القسم هي تلك التي يدرس فيها بلوك، في شكل خلاق وجديد، الانتقال من المجتمع المادي الى المجتمع الذهني، ولا سيما حياة الأفكار. ومن هنا يأتي الجزء الثاني من الكتاب مركزاً على دراسة الطبقات والشرائح الاجتماعية والبنى التراتبية في المجتمع، وكذلك دراسة أساليب ادارة شؤون البشر، في زمن لم يكن هؤلاء قد اصبحوا مواطنين بعد.

من البديهي القول هنا إن كتاباً ضخماً في جزءين حول هذا الموضوع، ليس من السهل الحديث عنه باستفاضة في هذه العجالة. حسبنا هنا أن نذكر الخطوط العامة، والتجديدية لعمل فكري اذا كان ثمة كتاب يلخص منهج مدرسة «الحوليّات» وحده، فلن يكون سوى هذا الكتاب، الذي كان آخر كتاب ينشره مارك بلوك في حياته، علماً أن بقية كتبه، إما نشرت قبله، وإما نشرت بعد مقتل المؤلف. ومارك بلوك 1886 - 1944، عرف على أي حال بكونه «مؤرخ العصور الوسطى الفرنسية»، لا سيما خلال المرحلة التي ازدهر فيها كمؤلف وأستاذ جامعي ومؤسس لتيار «الحوليّات»، أي فترة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية. وهو ولد في مدينة ليون لأب كان استاذاً للتاريخ القديم. وهو خاض الحرب الأولى جندياً ليعود بعدها متابعاً حياته الدراسية ويصدر في عام 1924 أول كتبه الكبرى «الملوك السحرة». وكان ذلك قبل 5 سنوات من تشاركه مع زميله لوسيان فافر، في تأسيس حقبة جديدة من التأريخ في فرنسا وأوروبا، هو الذي يركز معظم دراساته التاريخية حول المجتمع الاقطاعي ومجتمعات العصور الوسطى.

 

المصدر: الحياة