فلاسفة الثورات
في الثورتين الفرنسية 1789، ثم الروسية 1917، لم يظهر أثر المفكرين والكتاب والفنانين والمثقفين بشكل مباشر، لأن الثورات تحتاج إلى وقت طويل حتى يظهر مفهومها الفلسفي. في البداية تكون مجرد أفكار تتشابه، تتقارب، تتواصل، تندمج، ثم تتحول إلى نظرية، ثم إلى شعارات، ثم إلى أهداف، ثم تصبح حالة اجتماعية، ظاهرها عفوي وباطنها فلسفي.
لقد كانت أفكار أميل زولا، وموباسان ومونتيسكو، وغيرهم من عباقرة الفكر الفرنسي، المحرك الأساس للإطاحة بالديكتاتورية الملكية، وخلال سنوات طويلة تشرّب المجتمع الفرنسي فكرة الحرية، من الشعر والروايات والخطب والمراسلات والأغنيات والرسومات، ليصل إلى ضرورة تحطيم الباستيل؛ أعتى سجون باريس.
كما كانت أفكار تورغنيف وغوغول ودستويفسكي وليو تولستوي وتشيخوف، وسواهم من عباقرة روسيا، موحية أشد الإيحاء لتفجير ثورة الشيوعيين ضد ظلم القياصرة، حيث مهدت الأشعار والروايات لنمو فكرة الكرامة البشرية، ودحض العبودية، وخاصة عبودية الأرض لدى الفلاحين في روسيا، ويخطئ من يظن بأن أفكار تروتسكي ولينين، هي التي فجرت الثورة. لقد مهد الفن الطريق للسياسيين، لإلهاب حماس الجماهير.
الثورات الكبيرة مهد لها فكر ناضج تخلص من أوهامه، ليس ذلك الفكر النخبوي فحسب، بل فكر جماهيري له قاعدة واسعة، نكاد أن نفتقده (الفكر الناضج) في ربيعنا العربي، حيث بدأ يقفز إلى قطار الثورة «الهتيفة» الشعاراتية، ومحبو برامج المحطات الفضائية، وأصحاب الفكر الظلامي، والمتشددون، أصولياً، أو شوفينيين، أو من المغالين الذين يريدون ألا يفوتهم القطار، وكانت دائماً هناك محطات فضائية تقدم لهم تذاكر صعود إلى الدرجة الأولى!
لقد أدى تخلي النخب التقليدية عن الاضطلاع ببعض أدوارها الأساسية، إلى فسح المجال لظهور «قادة رأي جدد»، أسهموا في دعم موجة التغيير السياسي، انطلاقاً من مشاريع شخصية أو وجدانية أو تصفية حسابات، أوـ ربماـ أحقاد دفينة، بينما حركة الاحتجاجات والثورات تستأثر بالشباب، فكراً وتوجهاً، وكثير من تلك الاحتجاجات كانت عفوية الطابع، وليست ذات محتوى سياسي واضح (عدا التيارات الأصولية)، لذلك مازال بعضها يتخبط في بحر من هتافات الشارع.
إن أزمة النخب العربية منذ قرون، تبرز أساساً في قلة تأثيرها في الشارع الثائر، وأن هناك تراجعا للنخب عن أداء أدوارها التنويرية المؤثرة في مجتمعاتها، لذلك تبدو المسافة واسعة بين الثورتين الفرنسية والروسية من جهة، والربيع العربي من جهة أخرى، لأن الشعر العربي، والرواية والفن عموماً، كان تخديرياً، وليس ثورياً، وهو ما أدى إلى ظهور الأفكار العفوية التي نراها اليوم.