ملاحظات حول علم اللغة

ملاحظات حول علم اللغة

تطورت اللغات البشرية مع تطور المجتمعات البشرية، ولم تتطور لغة واحدة بمعزل عن الأخرى، بل كان التأثير متبادلاً، وانعكاساً لتبادل الخبرات الاقتصادية الاجتماعية في العمل.

تاريخ اللغة الألمانية

كان جاكوب غريم أحد مؤسسي علم اللغة المقارن والبروفيسور في جامعة برلين يعتقد اعتقاداً راسخاً في كتابه حول تاريخ اللغة الألمانية: أنّ أية لهجة ألمانية يجب أن تكون إما ألمانية عُليا «فصحى» أو ألمانية دُنيا «لهجة غرب وجنوب ألمانيا».
وبما أن اللهجة الفرانكية المكتوبة كانت في العصر الكارلوفينجي المتأخر، ألمانية عُليا «ذلك أن تحريك الأحرف الساكنة وتحويل الصوامت قد أثر على فرانكية الجنوب الشرقي»، فقد خُيِّل إليه أن الفرانكية قد ذابت نهائياً في الألمانية العليا «الفصحى» القديمة في بعض الأمكنة، وفي الفرنسية في أمكنة أخرى.
وعندئذ بات مستحيلاً تماماً تفسير كيفية انتقال اللهجة الهولندية إلى الأقاليم السالية القديمة. وبعد وفاة غريم تم اكتشاف الفرانكية من جديد: إنّها السالية التي تجددت في الهولندية والريبوارية «الساحلية» في لهجتي الراين الأوسط والأدنى، اللتين تحولتا بدرجات متفاوتة نحو الألمانية العُليا «الفصحى» وبقيتا جزئياً ألمانية دُنيا، إذاً، فاللهجة الفرانكية حسب فريدريك إنجلس لهجة ألمانية عُليا ولهجة ألمانيا دُنيا في الوقت نفسه. وهكذا تعطينا اللغة الألمانية مثالاً حول المستوى الأول من عمل ديالكتيك الاتصال والانفصال في اللغات المختلفة، المستوى الذي يعمل في الصوتيات والمفردات واللهجات.

نسبية اللغة الروسية

اللغة الروسية واحدة من اللغات السلافية القديمة، ومن أكثرها حيوية ومرونة، وأيضاً واحدة من أكثر اللغات التي تحتوي حالات شاذة.
ماذا تعني الحالات الشاذة في اللغات؟ تعني شيئاً واحداً بالضبط: هو كسر مطلقية القواعد اللغوية كما تفرضها ضرورات التطور، فالقاعدة الفلانية تُطبّق ولا تُطبّق في الحالة الواحدة. ونستطيع قياس النسبية في اللغة الروسية من كثرة الحالات الشاذة التي تناقض القواعد. كما نستطيع قياسها في لغة الأدب الروسي التي تسمح بكسر القواعد لضمان جمالية النص المكتوب. وهنا مثال للمستوى الثاني من عمل الديالكتيك داخل اللغة الواحدة.

قضايا اللغة الكردية

إذا ما فسّرنا العلاقة بين اللغات التركية والعربية والكردية سنصل إلى نتيجة فريدة لا تستطيع تجاوز الديالكتيك.
ثمة فكاهة ساخرة مشهورة في الأدب الكردي تقول: اجتمع علماء اللغة التركية لتنفيذ مهمة تنقية لغتهم من الكلمات الأجنبية. وتوصل العلماء لوضع كتاب أطلقوا عليه اسم «زمان تصفييت».
الكلمة الأولى «زمان»، تعني «اللغة» بالكردية. والكلمة الثانية «تصفييت»، وهي اشتقاق من الكلمة العربية «تصفية»، أي أطلقوا على كتابهم اسم «تصفية اللغة»، واستخدموا في العنوان كلمة كردية وكلمة عربية.
تعيش في الفكاهة السابقة حكمة فلسفية وهي تداخل التأثيرات بين اللغات المختلفة وانفصالها عن بعضها بنفس الوقت، وهذا يشمل التأثيرات التركية في اللغات العربية والكردية وبالعكس.
حسب البروفيسور قناتي كردوييف أحد أشهر علماء اللغة الكردية في جامعة لينينغراد السوفييتية، لا يمكن دراسة الأدب الكردي بشكل واسع دون معرفة الآداب العربية والتركية والفارسية والجورجية وغيرها، ونضيف إلى ذلك الآداب الأرمنية والسريانية والقفقاسية. وذلك بسبب الكلمات الواسعة التي دخلت من هذه اللغات إلى الكردية وبالعكس.
يعرف لغويو الشرق إن اللغة تتكون من لهجات، وفي ذلك قفز فوق وقائع مهمة، إذ يقسم علم اللغات الحديث اللغة الواحدة إلى ثلاث مستويات: اللغة– مستوى متوسط يدعى داياليكت باللاتينية– اللهجة. وحسب هذا التصنيف تتكون اللغة الواحدة من مستوى متوسط بين اللغة واللهجات، وينقسم كل فرع من المستوى المتوسط إلى لهجات.
يقول علماء اللغة الكردية بتفرع الأخيرة إلى أربع لهجات، وهذا غير دقيق لأنه تجاوز للمستوى المتوسط. إذ تنقسم اللغة في مستواها المتوسط إلى 4 لغات- لهجات هي الكرمانجية والسورانية والظاظا والكورانية.
فالسورانية والكورانية لها قرابة شديدة مع الفارسية الحالية على عكس الكرمانجية التي تعتبر الكردية الفصحى اليوم، ولكنها قريبة إلى الطاجيكية والآفستائية القديمة، ويمكن القول: إن الفارسية الحديثة والكردية والطاجيكية والأفغانية والأوستينية «الآلانية» وغيرها قد تفرعت من لغة قديمة واحدة هي اللغة البهلوية «الفارسية القديمة». بينما جاءت الظاظا من اندماج اللغة الحثية القديمة مع الكردية. وهذا ما يفسر اليوم وجود أصوات في اللغة الكردية لا تحسبها الأبجديات الموضوعة في القرن العشرين، مثل: وجود الحرف المتوسط بين الحرفين «ز- ظ» واللام المشددة الثقيلة التي تشبه مثيلتها الروسية.

رياضيات الصياغة اللغوية

تعطينا الصياغات اللغوية صورة واضحة عن ديالكتيك العلاقات والروابط في اللغات. العلاقات والروابط التي يعود اكتشافها للفلسفة العربية الإسلامية. فسكان المدن في عصر الرأسمالية يصيغون جملهم باختصار «الهرم المقلوب»، ويأتي أهم ما في الكلام في الجملة الأولى ثم الأقل أهمية، أي «عطيني الدغري» كما يقول الدمشقيون.
بينما يركب سكان الأرياف صياغات الجمل بشكل نقيض تماماً «الهرم المعتدل» وهكذا يأتي أهم ما في الكلام في النهاية والأقل أهمية في البداية. ويعود هذا النوع من الصياغات اللغوية إلى العصر الإقطاعي حيث الإسهاب في الكلام والكتابة والأدب.
أما بالنسبة إلى أشكال اللغات الأخرى، مثل: لغة الإشارة القديمة، ولغة التصفير في جزر الكناري، ولغة الصياح عند مزارعي الشاي في الجبال التركية والإيرانية، ولغة العصافير عند غجر الشرق، واللغة التجارية المشفرة لبائعي الأسواق الدمشقية، فالاختصار هو سيد الموقف، ويعيش الهرم المقلوب داخل الصياغات اللغوية بشكل رئيس.

كيف تتطور اللغات؟

يُخبرنا تاريخ اللغات: أن الإنكليز لا يستطيعون فهم الإنكليزية السائدة في القرن الرابع عشر، وتعتبر الأمثلة والحكم الشعبية التي تعود إلى ذلك الزمن أكبر دليل على ذلك. كما لا يستطيع الروس فهم اللغة التي تكلم بها أسلافهم قبل ألف عام، وهي اللغة نفسها التي انقسمت إلى الروسية الحالية والأوكرانية والبلغارية والبيلاروسية وغيرها. كما لا يستطيع العرب فهم الكثير من المعلقات والشعر العربي الذي يعود إلى 1600 عام. وسر ذلك في قوانين الديالكتيك التي تحكم علوم اللغة من خلال عدة مستويات.
وهكذا يسير تطور اللغات في خط متواصل، تُلغى كلمات وتضاف أخرى جديدة في عصور مختلفة. كما تتأثر اللغات ببعضها، وتعتبر اللهجات المحلية حلقات وصل بين اللغات المتجاورة من جهة، وبين اللغات الحية واللغات الميتة من جهة أخرى.

معلومات إضافية

العدد رقم:
920
آخر تعديل على الإثنين, 08 تموز/يوليو 2019 13:45