الحياة الجديدة: متى أصبح العمل ضرورة؟
عند الكلام عن استبدال الرأسمالية كنمطٍ من العلاقات، تنتصب أمامنا الصّورة المعقدة المتحركة للمجتمع، القائمة على تفاعل وتداخل البناء التحتي الإنتاجي- الاقتصادي وعلاقاته مع البناء الفوقي ومستوياته المختلفة التي تنتمي إلى بنية الوعي (الفن، السياسة، أدوات التفكير...). وبالرغم من كون التحتي أساساً للفوقي، ولكنهما في تداخل جدلي لا يمكن فصله اعتباطياً، ومن أهم تبعات هذا التداخل- حسب ماركس- أنه يسمح للبناء الفوقي بالتأثير على البناء التحتي في ظل تحدُّدِه به. ومن أهم ملامح الطرح الغرامشي: تظهيرٌ لهذا التفاعل الجدلي بين البنيتين، وهو تحليل متزامن لعدم انفصالهما، وتتبّع تداخلهما في سياق الممارسة. وما مفهومه عن الفلسفة ممارسياً إلا تكثيف لذلك. ويشكل منطلق وحدّة وتفاعل، والتأثير المتبادل بين البنيتين أساساً في التصدي للمهام المتعددة المنتصبة أمامنا.
العمل المأجور- تقسيم العمل- الاغتراب
النظام الرأسمالي يقوم على العمل المأجور لإنتاج القيمة المضافة من خلال استغلال قوة العمل، مع تقسيم عالٍ للعمل. والظاهرة النابعة من هذه العملية هي الاغتراب. ولأن العقود الماضية أنتجت نضجاً للظاهرة الاغترابية، لم يكن متبلوراً ما قبل الموجة الثورية الأولى في القرن العشرين، بسبب بروز أشكال الاستغلال الجديدة وتعقدها ما بعد التنازل التاريخي الذي حصل في منتصف القرن الماضي، ما سمح بارتفاع نسبة الجانب المعنوي إلى الجانب العملي، هذا التبلور للظاهرة الاغترابية أصبح مدمراً لقوة العمل (وهنا وعي الإنسان وبنيته النفسية وتأثيره على الجسد نفسه) في الطّور الجديد من الرأسمالية (كما كان اهتلاك جسد العامل إرهاقاً هو الطابع العام للطور السابق من الرأسمالية). ولأن تجاوز النموذج الرأسمالي يتطلب ليس فقط بديلاً شعبياً لملكية وسائل الإنتاج وإدارتها، والتوزيع والاستهلاك، بل أيضاً تجاوزاً لهذا النمط من الإنتاج القائم على العمل المأجور ذي التقسيم العالي للعمل، فإن طرحاً جديداً لا بدَّ من تبلوره، وهو الذي كانت البشرية طوال تجاربها الثورية تقوم على إنتاجه في أشكال جنينية، ولم يهيمن اجتماعياً.
الاغتراب كظاهرة اندماج البنيتين التحتية والفوقية
إذا كان الاغتراب كنتاج انفصال العامل عن عملية العمل ونتاجها، وعن نفسه وعن الآخرين، في ظل التقسيم العالي للعمل، يؤدي إلى مستوى معين من تطور الوعي وأدوات التفكير، أي: مستوى معيّناً من التجريد والتعميم، وإلى مجمل الاضطرابات النفسية والجسدية، واضطراب الحاجات التي يتم تعويضها لاحقاً بإشباعات وهمية (ملامح اغتراب داخلي)، ما يؤسس للنمط الاستهلاكي الهستيري لمجتمع النيوليبرالية، وهَوَس التملك والـ «الجوع الروحي»، ولمجمل السلوكيات العدوانية والتدميرية، وظاهرة التفكك الاجتماعي (ملامح اغتراب بيني)، ولنمطٍ ثقافي مضاد للعمل، إذا كان ذلك كلّه وأكثر، هو في الجوهر تدمير القوى المنتجة الحية والمجتمع وتشوّه نظام المعاني الذي يحرك الأفراد، فإن هناك أهمية حاسمة لاستبدال العمل المأجور ومحاولة تخفيف تقسيم العمل إلى مديات أكبر من أجل كسر ظاهرة الاغتراب أو أقلّه تقليصها، حيث يمكن تحديد ظهورها حسب الميدان الاجتماعي وتعقد الظاهرة. فالظواهر التي تشكل نتاجاً لعلاقات اجتماعية كبيرة واسعة هناك صعوبة في تلمّس تقلّصها واستبدالها المباشر بشكل سريع. ألم يقل ماركس: إن حياة العامل تبدأ عند انتهاء دوامه؟ ولكن أيضاً فإن الماركسية تقول: إن العامل يرتاح نسبياً فقط عند خروجه من دوام العمل، ولكن طابع الاغتراب وانفصاله عن الحياة هو شامل، فعلاقة الإنسان بواقعه مقطوعة في الرأسمالية. أو للدقة: إنها مقطوعة في ظل عدم الصراع ضد هذه العلاقات، حيث وعي الصراع وممارسته يفتح قنوات الاتصال: إنسان- واقع.
لماذا كل ما سبق؟
للتكثيف، لأن تجاوز العمل المأجور يقع في صلب عملية تجاوز النمط الرأسمالي ومنها ظاهرة الاغتراب، وما سيحققه ذلك من تحرير وصيانة ودفع قوي لقوة العمل الموجودة، ما يعني رفع إنتاجية النموذج البديل من جهة، وتماسكه من جهة أخرى، لأن الإنتماء يصبح نتيجة ضرورية عندما يتحول العمل إلى ضرورة (على حد تعبير ماركس) متى ما صار الإنسان يرى أولاً: أن نتاج عمله النهائي يعود بالفائدة على المجتمع ليس ضمن دورة اقتصادية طويلة، بل خلال زمن قصير. ويتحرر بالمقابل من أَسْرٍ كونه برغياً فقط في عجلة الإنتاج. إذاً: نحن أمام استبدال ظاهرة العمل المأجور المحدود كمحدد للوجود الفردي، بأن يتحول العمل إلى جانب من جوانب الدور الاجتماعي الجديد. ودخول التكنولوجيا الحديثة اليوم يساعد على التخفيف من التقسيم العالمي للعمل اليوم. هذا الانتقال سيعدل مجمل اللوحة الحالية، محققاً ما جرى عليه الكلام كثيراً حول سعي الإنسان للاعتراف، ليس فقط في ممارسة دور إداري- رقابي- سياسي، بل دوره في عملية العمل نفسها وطبيعتها.
الحركة الستاخانوفية والعمل التطوعي نموذجٌ
كانت حركة العمل الستاخانوفية في الاتحاد السوفييتي نموذجاً عن تدخّل القيم والمعاني (المستوى الفوقي) التي أنتجها المجتمع السوفييتي في رفع إنتاجية العمل دون مقابل، وكل الحركة التطوعية التي قامت بها القوى الثورية، تنظيمات وحكومات، (كوبا ونموذج التعليم الشعبي، وكوريا الشمالية وتطوع الشبيبة في بناء المصانع مثلاً) هي نماذج عن العمل من أجل غاية، لا من أجل أجر في مفهومه الربحي المادي.
المسألة أغنى بكثير، وقد تحتاج لبحث كيفية البدء بإرساء هذا الشكل من التنظيم، وليس بالضرورة بشكل شامل ومباشر اجتماعياً، بل كشكل من الإنتاج قد يتوسع. ولكن ذلك يقف دونه عامل أساس: أن تتحول معاني المجتمع الجديد إلى غاية في عقول الشعب، واستجابة لحاجاته الكليّة التي تشكل سقف الحلم اليوم، المُنتَظِر تبدد دخان القذائف والأبواق المستعرة.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 920