التصوف بين اليوم والأمس
سلاف محمد صالح سلاف محمد صالح

التصوف بين اليوم والأمس

منذ أواخر العصور الوسطى وحتى يومنا هذا، باتت الصوفية مقتصرة على كونها حركة طرائقية مفرّغة من مضمونها الفلسفي، وهي بذلك تؤدي دوراً تأريضياً للقوى الحية في المجتمع، وبما يصب في مصلحة القوى ذات الامتيازات والتي تسعى إلى الحفاظ عليه. 

نحاول في مقالنا اليوم تسليط الضوء على ظروف نشوء الصوفية كحركة ذات إيديولوجيا معارِضة لإيديولوجيات السلطات القائمة في العصور العربية الإسلامية، وبما يعيد إليها مكانها الأصيل في التراث العربي الإسلامي:
-1-
ينبغي لدى البحث في الصوفية وضعَها في إطارها التاريخي المحدد زمانياً ومكانياً لنشوئها وأسبابه وتطورها اللاحق. ويتطلب ذلك البحث في العلاقة بين الواقع الاجتماعي والوعي الاجتماعي المحددَين في تلك الفترة، وعقد الصلة بينهما.
ويمكن ملاحظة: أن العصور الأولى لظهور الإسلام من حيث كونه ديناً وعقداً اجتماعياً جديداً يحقق التوافق بين الميتافيزيقية والواقع المادي لم تشهد ظهور أي شكل من أشكال التيارات الفكرية المستقلة بالمعنى الإيديولوجي عن الظروف الهائلة التاريخية التي تعتمل في مجتمع قيد التحول والتأسيس الجديد في بناه الاجتماعية والسياسية. وتَحَدَّد الإسلام في الجانب الميتافيزيقي منه بالتوحيد وشريعته كقانون وحيد للمجتمع الجديد الموحد للتو، وسلطته هي السلطة الوحيدة. أما في الجانب المادي فتَحَدَّد بضرورة التنظيم الاجتماعي القائم على احترام العمل الفعال..
- 2-
يمكن القول: إن اتجاهات التطور العام ظلت فطريَّة حتى حُسِم الصراع الدموي لصالح سلطة سياسية تعبر عن مصالح الفئة المؤهلة اقتصادياً للسيطرة الاقتصادية الاجتماعية، وضرورات هذا الحسم لجهة الحاجة إلى تطوير وإرساء تنظيم سياسي إداري مالي يراعي مصالح هذه الفئة، لتتشكل بناءً عليه (الدولة الأموية)، أو (دولة الخلافة) التي احتكرتْ السلطةُ فيها تمثيلَ الدين مُحدِّدةً بذلك علاقتها بالمجتمع لجهة عدم القابلية للاعتراض عليها ورفضها، مشكِّلةً بذلك سلطة استبدادية مطلقة، إضافةً إلى اعتمادها الشريعة والنصوص، وما يمثل فيها التوحيد من ركنٍ أساسي استمد منه الخليفة أو حديته المطلقة وتنزيهه عن العامَّة.
ويمكن هنا تلمّس نشوء مواقف تعبر عن رأي سلبي تجاه هذا الصراع، واتخذ هذا الموقف ما أُطلق عليه: الزهد.
-3-
نشأ الزهد إذاً في القرن الهجري الأول وكان احتجاجاً سياسياً اجتماعياً من قِبل رجال بارزين، مثل: (سعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وأسامة بن زيد بن حارثة الكلبي مولى النبي..) على جميع أطراف الصراع السياسي. فاعتزلوا حلبة هذا الصراع منذ موقعتي الجمل وصفين. وانسحب الاعتزال السياسي اعتزالاً اجتماعياً متخذاً طابعه الديني الصِّرف في التحول إلى العبادة. وكان من الطبيعي أن يجد هذا الموقف السياسي الاجتماعي موقفَه الفكري مؤسساً لثقافتهم التي وُضِعَت في مجرى الثقافة العام الجاري تشكيلها. ونجد أن أهم ما خرجوا به في محاولاتهم لصياغة موقفهم الفكري، هو: الاجتهاد في تفسير النصوص الدينية، وهو ما شكل النُّوى الأولى لطرائق التأويل المستخدمة من الصوفيين وأهل الفرق الأخرى.
- 4-
في النصف الثاني من القرن الهجري الأول، ومع تعقد وتعدد أشكال الصراع والتناقضات الاجتماعية، بدأ الزهد يأخذ بُعدَه الإيديولوجي، حيث جرى تحول في المجرى الاعتزالي الاجتماعي للزهَّاد وانخرطوا في حقل النشاط الاجتماعي أمثال: (داود الطائي والفُضيل بن عيَّاض..)، غير أن التحول الأساسي حدث مع اتباع الخراسانيين المنتمين إلى فئات ثريةٍ غير شعبية لطرق التزهد، أمثال: (إبراهيم بن الأدهم وعبد الله بن المبارك وشقيق البلخي..)، والجدير ذِكره، أنهم استمدّوا عقائدهم من المذاهب والعقائد الخراسانية في بلاد فارس ولا سيما الغنوسطية، وقد عارضوا دولة الخلافة على أسس قومية ثم اجتماعية سياسية، وقد أحدثوا تغييراً جوهرياً في مفاهيم الزهد اتصلت بالتقليل من دور العبادة، وإعلاء شأن (المعرفة، وعدم الإشراك)، وهو ما نحَّى الأسس المحددة للزهد من العزل والعبادة جانباً أمام إعلاء الدور الفاعل في المجتمع إلى مركزٍ (خطِر الشأن يعلو مركز الخلفاء والملوك ليوازي مكاناتٍ أعلى) لاعتبارهم الزهّاد ملوكاً.
يضاف إلى ذلك، تطورَان آخران مستمدان من البيئة العربية الإسلامية تجلّيا في ظاهرتَي (الحب الإلهي) بشخص رابعة العدوية، و(المعرفة) بمفهومها الصوفي بشخص معروف الكرخي الذي نُسِب إليه فوزه بالكشف الصوفي أو العلم الذاتي.
في هذه المرحلة أخذ الزهد بالتحرك تجاه التصوف الفلسفي، أو ما يمكن أن يطلق عليه (النزعة التصوفية).
-5-
مع القرن الهجري الثالث، تحوَّل الزهد من ظاهرة تعبر عن موقف سياسي اجتماعي إلى التصوف ذي الحامل الإيديولوجي متخذاً أبعاده الاجتماعية أولاً: المتناسبة مع الوعي الاجتماعي التي بلغها المجتمع في تلك الفترة، وأبعاده الفكرية. ثانياً: والتي باتت تُمثل جزءاً (عضوياً في بنية الإيديولوجيا المعارِضة لإيديولوجية دولة الخلافة المستبدة). إذ صاغ المفكرون الإسلاميون- وإن عفوياً- إيديولوجيا تواجه إيديولوجيا الدولة القائمة في حينه ضمن ظروف تلاقى فيها الوعي الاجتماعي بالقاعدة المادية المتطورة. وشكلت هذه الإيديولوجيا شكلاً من أشكال الصراع متعدد الأوجه والمتناسب مع تعقيد الدولة في حينه.
وقد تمحورت الأسس الإيديولوجية للتصوف بـ:
أولاً: نظرية المعرفة التي وإن انطلقت كإيديولوجية السلطة من وحدانية الخالق، غير أنها هدمت تمثيل السلطة لعلاقة الإنسان بالخالق حين أقامت من خلال المعرفة القلبية الصلة المباشرة بين الإنسان والخالق، كما رفعت شأن أهل الولاية العارفين قلبياً بسبب قدرتهم على خرق القوانين الطبيعية، وساوتهم بالمقامات الأخرى. وقد عَنَى هذا الهدم انكشاف الستار بين الإنسان- الحاكم والإنسان- المجتمع. أضف إلى أنه أدى إلى نفي الجبرية عن الإنسان.
ثانياً: التأويل وفكرة الظاهر والباطن التي من خلالها تخطَّتْ (شريعةَ الدولة الرسمية) ونصوصها (الظاهرة- الصريحة) كأداةٍ لتسلطها. فنفذَت إلى (باطن الشريعة) ونقَضَت (وحدة الحقيقة الدينية) التي تدعيها السلطة. وهو ما يعني: (رفض الشريعة التي تتعامل بها الإيديولوجيا الرسمية).
وعلى ذلك، مَثَّل التصوف في جوهر إيديولوجيته رفضاً للنظام الاجتماعي الذي تدّعي الدولة الخلافة تمثيله، وتقيمه وتحكمه. وهو ما يبيَّن أن اضطهاد الصوفيين- وإن اتخذ طابعاً دينياً- كانت دوافعه إيديولوجية سياسية من السلطات الحاكمة في العصور العربية الإسلامية بشكلٍ يناقض رعايته (كطريقة) شبه الرسمية اليوم!

معلومات إضافية

العدد رقم:
907