أين تقبع السينما اليوم؟
لم يعد خافياً على أحد الوضع المتردي الذي وصلت إليه السينما لدينا، ويقوم التلفزيون بدوره أيضاً الذي يساهم مساهمة فعالة في هذا الوضع السينمائي المتردي. وخاصةً بعدم إعطاء فرص للكّتاب المثقفين والوطنين بالمساهمة بإنقاذ الوضع المتردي، أما القطاع الخاص وشركات الإنتاج الخاصة فلديها سياساتها الرجعية الرديئة المساهمة في الإسراع بطلقة الرحمة للسينما السورية.
ألّا يمكن لمؤسسة السينما وضع لجنة من السينمائيين للبحث عن حلول للسينما السورية وانتشالها؟ هنا أقول: سينمائيون ولا مخرجون فما الفرق؟ المخرج الذي يفتقد للفكر يستطيع أن يقدم لنا عملاً خالياً من الأخطاء التقنية فقط. أمّا السينمائي فهو شخص يمتلك الوعي الفاعل بكل وسائل التعبير (هل العمل مع الكاتب لرفع سوية النص وقيادته الدقيقة والواعية للمثل عداك عن لقطاتة وتكوين الصورة لخدمة الدراما والإضاءة واللون و.. إلخ) والأهم من ذلك: له رسالة تجاه شعبه والوطن بأن يرتقي بالوعي الجماهيري لا أن يهبط به أكثر فأكثر.
ألا يمكن في هذه الأزمة التي تمر فيها البلاد أن نستفيد من التجربة الإيطالية في الحرب العالمية الثانية، فقد كانت البلاد مدمرة بشكل كامل، وكان الفقر يسود معظم أنحاء إيطاليا. مما أدى بالسينمائيين المثقفين والمهنيين إلى إعمار البلاد بالمشاركة لإزالة الدمار الفكري. فأسسوا الواقعية الجديدة وبدأوا يهتمون بالمواطن العادي والعامل ومشاكله عوضاً عن تسليته، فهو ليس بحاجة للتسلية بل لتجديد بناء نفسه. وفي فرنسا أنشِئت الواقعية الرومانسية لتخفف الألم عن الشعب الفرنسي ومساعدته وكأنها طبيب نفسي لتخطي أثار الحرب.
أذكر أحد أفلام الواقعية الجديدة للمخرج جان فرانكو مينكونسي والذي كان لي الشرف أن أعمل معه بأحد أفلامه. لقد أخرج ذلك السينمائي فيلماً رائعاً «الشاشة المخادعة» تدور أحداثه عن فترة ما قبل الحرب. لقد كانت العادة في إيطاليا أن تتجول بسيارة مزودة بجهاز عرض سينمائي بين القرى والأماكن المهجورة وتعرض في الخلاء لسكان هذه القرى أفلاماً سينمائيةً بعد توفر صالات العرض، وبالفعل كان القرويون يعجبون بالأفلام الأمريكية كقصص الحب أو الأفلام الموسيقية والاستعراضية إلى أن نشبت الحرب العالمية الثانية، ورأى بأم عينيه دمار بلاده، وأدرك أنه يخدع شعبه ويخدره. فقام بحرق شاشته التي كانت مصدر رزقه ندماً على مساهمة في تخديره لأولئك الناس البسطاء.
وبالفعل هذا ذكرني بالصين قبل الثورة الاشتراكية فقد نشرت إنكلترا بالتدريج تعاطي الأفيون والحشيش بين الناس، وأحرقت /500/ مليون نسمة بالمخدرات لتستطيع المضي بالسيطرة على الشعب الصيني علاوةً عن كونها تجارة رابحةً، وأصبح عليها طلب من قبل الشعب وزاد فقره وانتشر الفساد أكثر فأكثر. لكن الدولة الاشتراكية من بعد الثورة منعت تجارة المخدرات رغم الطلب الشديد عليها، لعلمها أن هذا الطلب هو نتيجة تربية استثمارية دامت سنين طويلة ودمرت المجتمع الصيني.
وكلنا نعلم أن المخدرات ممنوعة لدينا والقانون يعاقب عليها بشدة، لكن هناك نوعٌ واحدٌ من أنواعها يتلون كالحرباء ويتخذ ألف رداء ولا يزال مسموحاً به، ألا وهو: السينما الأفيونية.
لأجل ذلك نشأت هوليود ودُعمت من قبل الصهيونية. فقد كانت هوليود في الماضي منطقة فقيرة جداً وسوقاً تباع فيها السلع القديمة الرخيصة والمستخدمة أحياناً، فكان اكتشافها من قبل الصهاينة كنزاً لهم وبحجة التنظيم الصناعي في تلك الفترة أجبروا سكانها أصحاب الجزم البسيطة لترك المكان للممولين أصحاب البزات الغالية والنظارات السوداء لتبنوا فيه أكبر شركات الإنتاج، وكل شركة، هي: مدينة كاملة تحتوي على الأسواق والفنادق والمسابح وعلب الليل وشيدت الأستديوهات الحديثة المتينة والبيضاء لتخفي سواد غايات إنشائها وذلك كمصارف نيويورك.
ليبدأ الصهاينة بتشويه المجتمعات، وخاصة من لها تاريخ عريق وغني تفتقده أمريكا لكونها بنيت على الدمار وأبادت خمسين مليون هندي أحمر من سكانها الأصليين. فكانوا يشوهون كل شيء حتى بطلهم الحقيقي المتواضع الدكتور راسل، فهذا الطبيب وهو من البحرية الأمريكية استطاع في عام 1942 إنقاذ بشجاعة أعدادٍ من النساء والأطفال وقادهم بين الغابات متغلباً على أخطار مختلفة إلى أن وصلوا إلى بر الأمان. وذكر اسم هذا الطبيب الرئيس روزفلت في أحد لقاءاته وما أن أنهى الرئيس كلمته التي سمعها الغول الصهيوني والمنتج السينمائي سي- بي (كما كان يناديه الناس وذلك لعدم إظهار اسمه الحقيقي) وأراد استغلال هذه القصة وربما في اليوم التالي أعلنت الجرائد الأمريكية أن قصة الدكتور راسل ستتواصل قريباً على الشاشات. فتم طلب حضور الدكتور إلى شركة بارامونت لتوقيع عقده، وعند مجيئه استقبل في الأستديو بجميع مظاهر الأبهة الممكنة ودعي إلى العشاء مع سي- بي بعد أن وقع عقده وكان يجلس على يمينه وعرّفه على العديد من نجوم هوليود.
وفي أثناء إعداد السيناريو فوجئ مراراً بإضافات لم يكن يرويها وتبدلات عاطفية ودرامية مسيسة وعندما كان يعترض يسمع نفس الجواب: دعنا نعمل فنحن نعلم ما يريده الجمهور. كما أصبح لا يحتفل به بعد ذلك.
ولم يعد يجلس في المطاعم إلى يمين سي- بي ثم بات يتناول طعام الغداء بصحبة إحدى السكرتيرات على طاولة صغيرة، بينما كان سي- بي يستقبل عدداً من المدعوين ذوي الشأن والنفوذ.
وبالفعل بدأ تصوير الفيلم وفي إحدى الأيام وبعد انتهاء يوم التصوير خرج الفنيون من الأستديوهات وركبوا سياراتهم الفاخرة، والدكتور راسل المجيد واقف وحيداً على زاوية الشارع ينتظر سيارة النقل العامة.
هل سيقف كتابنا والعديد من المثقفين على حافة الطريق لانتظار سيارة نقل عام مثلما وقف الدكتور راسل؟
لقد رويت لكم قصة الدكتور راسل لكي نسقطها على واقعنا الدرامي، فنحن الآن نريد أفلاماً لا تخدرنا ولا تخدعنا، بل تساعد مجتمعنا السوري على انتشال نفسه وبسرعة من حالة الإحباط، وثقل مخلفات الأزمة، وهذا يقع على عاتق الجميع.