الذكاء الاصطناعي ما بين: التناقض وحدود الفكر السائد
إن الطبيعة المتداخلة لبعض الميادين البحثية العلمية، حيث تتلاقى عدة علوم بشكل ملموس، تجعل من تطور هذه الميادين مرتبطة بطبيعة هذه العلوم التي تشكل هي نقطة التقائها. فمثلاً: إن الذكاء الاصطناعي هو ميدان تتلاقى فيه الهندسة الكهروميكانيكية، وهندسة الحواسيب، وعلم النفس، والطاقة وغيرها.
ولكون الذكاء الاصطناعي، وما يشمله من فروع كالأنظمة المعقدة والتحكم الآلي والروبوتات وغيرها، يحاول أن يعكس في الآلة ملامح وقدرات عقلية مستوحاه من الإنسان والحيوان كذلك، فإنه منهجياً وبشكل أساس يستند إلى علم النفس وفلسفة نظرية المعرفة بشكل عام. ولهذا إن اختلاف المدارس في علم النفس باختلاف الخلفيات الفكرية والفلسفية يجعل من ميدان الذكاء الاصطناعي ميداناً ملموساً للصراع الفكري والفلسفي، حيث تخضع النظريات النفسية لِمَحك التجربة المباشرة. لهذا فإن الصراع ما بين تيارات علم النفس تاريخياً شهد تكراراً له في ميدان الذكاء الاصطناعي، ولكن بشكل سريع نسبياً. فخلال عقود تسارع نمو الذكاء الاصطناعي، وتبارت النظريات النفسية السائدة كالمعرفية والسلوكية الإشراطية والبنائية لتطوير الذكاء الاصطناعي.
الحدود الكمية للنظريات السائدة
كان التسارع والانتقال من نظرية إلى أخرى مبنياً على حدود النظريات المعتمدة، فالنظرية المعرفية أثبتت جموداً كونها تعتبر البنى العقلية عبارة عن شبكات معرفية خالصة دون البحث في أصلها الاجتماعي التطوري، مما كبح قدرة الأنظمة الذكية المستندة إليها وضيق تطبيقاتها. فحصل انتقال منهجي نحو النظريات التي تعتمد النمو في دراستها على تطور وظهور القدرات العقلية، فكان هنا انتعاشاً للنظرية التشريطية السلوكية في ميدان الذكاء الاصطناعي، المعتمدة على فكرة ترابط المثير-الاستجابة، ويمكن القول أنها حتى اليوم لا تزال المسيطرة على الفكر المنهجي في ميدان الذكاء الاصطناعي. وإلى جانب التشريط حصل استناد إلى نظرية نمائية أخرى هي: البنائية، والتي تقول بمبدأ التعديل- التطبيق الذي يطال المخططات العقلية، وهي لم تتخطَّ عند تطبيقها فكرة المثير- الاستجابة، ولكنها وسعتها لكي تنتج سلاسل من المثيرات والاستجابات لتشكل بذلك أنساقاً يجري تعديلها.
ولا تنحصر المنهجيات المعتمدة على النظريات الثلاثة أعلاه، ولكنها الأساس، حيث يجري في كثير من الأحيان دمجها. والحدود المنهجية لجميع هذه النظريات تكمن في كونها عند تطبقيها في ميدان الذكاء الاصطناعي تعتمد النظرة الكمية إلى النمو العقلي. نتيجة هذه النظرة نتجت العديد من المشاكل والصعوبات، وخصوصاً في مجال الروبوتات التي تُعنى بمهام ديناميكية معقدة ومتغيرة مع المحيط.
في أساس المشاكل، هي: صعوبة المنطق الكمي على تطوير قدرات التجريد والتعميم، والتي هي أساس لمشاكل أخرى، كعدم قدرة نقل ما يتم تعلمه من خبرات في بيئة محددة إلى بيئة أخرى، إضافة إلى اكتساب اللغة وقدرات التواصل لدى الروبوتات التي يحصل بينها وبين الإنسان، أو بين روبوتات أخرى، نوع من التعاون أثناء تأدية المهام. إضافة إلى ذلك هناك مشكلة الحاجة إلى زمن تدريب كبير جداً، تحتاجه هذه الأنظمة بسبب عدم قدرتها على التجريد أو التعميم. هناك أيضاً مشكلة توليف المدخلات الحسية مع القدرات الحركية للروبوتات.
لا تنحصر الصعوبات بهذه المشاكل، ولكنها تُظهر حجم الحدود المنهجية لهذا المنطق الكمي في النظر إلى قضية التعلم والنمو العقلي.
الماركسية، والنمو كانتقال نوعي
إن النظريات التي ذكرناها أعلاه تنتمي إلى النظريات السائدة والفكر السائد، على حساب تغييب الماركسية في الميدان النفسي ونظرية المعرفة. فالمدرسة النفسية السوفييتية أرست منهجية بحثية على أساس الماركسية، وأنتجت على أساسها نظرية نفسية متكاملة. وفي جوهرها: أن النمو هو عملية نوعية لا يمكن تفسيرها بانتقالات كمية تبسيطية. وفي أساس هذا الانتقال من النوعي إلى الكمي يكمن التناقض كمحركٍ لأي تقدم. وبالرغم من الإشارة إلى نتاج المدرسة السوفييتية في بعض الأوراق في مجال الذكاء الاصطناعي، إلّا أنها بقيت استعارات غير منهجية، بل تطبيقاً مباشراً لنماذج جاهزة من النظرية دون الالتفات إلى ما تتضمنه من اختلاف في النظر إلى عملية النمو. ومن الدلائل على هذا التجاهل المنهجي، هي: أنّ النظرية النفسية المطورة من قبل السوفييت تحت اسم نظرية النشاط الثقافية التاريخية، والمرتبطة عادة باسم الباحث السوفييتي ليف فيجوتسكي، يجري مثلاً مماثلتها في بعض الأوراق البحثية بنظرية النمو البنائية، وهو ما ينم عن عدم تمييز أساسي لدى هؤلاء الباحثين.
محاولة حديثة في هذا الاتجاه
في بحث يجري مؤخراً ضمن المختبر الوطني للأنظمة المعقدة والذكية التابع لمعهد الأتمتة في الأكاديمية الصينية للعلوم في بكين، هناك محاولة أولية لتطبيق مفاهيم النمو النوعية في مجال الذكاء الاصطناعي استنادا إلى النظرية النفسية السوفييتية. حيث ستنشر ورقة بحثية على أساس هذا البحث في مؤتمر صيني دولي حول التحكم هذا العام. يجعل هذا البحث من مفهوم التناقض حجر الزاوية الذي تم تجاهله طويلا في الميدان. على أساس التناقض تتحق إمكانية التوليف النوعي للتجربة، مما سيشكل قاعدة لتجاوز العديد من الصعوبات التي ذكرناها أعلاه، وفي أساسها إمكانية التجريد والتعميم. يؤسس التناقض لانعكاس المعنى، الذي هو كشف عن العلاقات الوظيفية وجوهر التجربة. للمناسبة، السعي لتمثيل المعنى شكَّل طوال عقود طويلة قضية بحثية لا زالت عصية في ميدان الذكاء الاصطناعي.
تُظهر الماركسية ونتاجها النظري النفسي دفعة في مجال الذكاء الاصطناعي، وتخطي بعض الصعوبات المنهجية القائمة، فهنا لا توجد مماحكات نظرية مجردة كما في الميدان النفسي سابقاً، بل اختبارٌ على قوة النظرية في الملموس التجريبي، لا مجال لتغييبها.