شيطنة الانضباط والتخطيط والتكنولوجيا؟
إن شيطنة التكنولوجيا، وخصوصاً طفرة الذكاء الاصطناعي، هي عنوان ثابت لدى الفكر الرّسمي وإعلامه وأكاديمييه وسياسييه عندما يتظاهر بمعالجة قضايا البشرية الراهنة، مضافاً إليها قضية التّغيّر المناخي والحرب النووية. حيث الجانب المباشر للتضليل الإيديولوجي هو تغييب الأساس الاقتصادي الرأسمالي لكل القضايا.
وفيما خصّ توسع دور التكنولوجيا، وانعكاسه على المستوى الأخلاقي والاجتماعي والسياسي، فإن جانباً آخر غير مباشر من التضليل هو عبر إظهار أن المشاكل الأخلاقية والاجتماعية والسياسية المطروحة الناتجة عن هذا التوسع، كما يزعمون، وكأنها ظهرت حديثاً وفقط بسبب التطور التكنولوجي «المنفلت من سيطرة الإنسان» كما يقول الفكر الرسمي. ومن أهم هذه الانعكاسات هي «حريّة الإنسان».
التكنولوجيا تقيّد الحرية
وتزيد الشمولية!
حسب الزعم الرسمي فإن رقمنة أغلب المعلومات والنشاط الشخصي على الشبكة، إما من خلال الرسائل الشخصية أو الأعمال أو وسائل التواصل الاجتماعي، ما يتم تكثيفه ضمن مفهوم «المعلومات الضخمة» أو الـ «Big Data»، جعلت وستجعل الإنسان مكشوفاً أمام الشركات التي تملك الدخول إلى هذا الكمّ الكبير من المعلومات، بالتالي فهي قادرة على التنبؤ بسلوكه وعاداته وخياراته، وكذلك تعمل على توجيهها، والأهم: القيام بمراقبته على مدار الساعة، مما يُفقد الإنسان خصوصيته الفردية و«حريته».
بالرغم من عدم نكران هذه الانعكاسات ضمن السياق الرأسمالي نفسه، ولكن جانب التضليل يكمن أولاً: في تغييب من يقوم بدراسة واستعمال هذه المعلومات، فالمشكلة ليست المعلومات بذاتها. وثانياً: في إشاعة الوهم، أن «الحرية» الفردية المقصودة كانت موجودة قبل هذا التوسع التكنولوجي، أي: حرية الاختيار والممارسة والإفلات من السيطرة الشمولية، وهو ما يشكل طروحات الليبرالية الفردية ضمنياً.
في حين تقول المعطيات التاريخية الملموسة ودون أية حاجة للاستدلال الفكري: إنّ هذا الوهم حول حرية الاختيار الفردي هي محض خيالٍ، فالفرد حرّ في أن يختار شكل عبوديته المادية والمعنوية فقط، وحيث رأس المال يملك كل وسائل الدعاية الواسعة والتعليم، لصناعة الإيديولوجيا، محمولة على الجهاز القمعي المباشر للدولة البورجوازية. فعبر هذه الوسائل «أُقنِعَت» البشرية طوال عقود من الزمن بأن الليبرالية الاستهلاكية هي النمط الحياتي الوحيد، فهل هذه الممارسة تدخل في باب «حرية الاختيار الفردية»؟ هذا في زمن «الاستقرار».
أما في زمن الحرب والانفجار السياسي والأمني والانهيار الاجتماعي والاقتصادي، فتظهر «الحرية» الرأسمالية في شكلها العاري، أي: حرية الاختيار بين أشكال الموت: قمع، أو مرض، غرق، أو جفاف، جوع وعطش، أزمات قلبية ودماغية، أو في جحيم الحرب.
الخوف من الخصم
تحت شعار «تقييد حرية الإنسان» تخاض معركة شيطنة التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي لما يشكّله هذا التطور من كشف لحدود قمع علاقات الإنتاج الرأسمالية لأي تقدم، وتوظيفه لصالح الإنسانية. ولكن من جانب آخر يستغل هذا الشعار لشيطنة الخصم أيضاً. والأمثلة على التهويل عديدة، كالتخويف مثلاً من تطوير التكنولوجيا من قبل كيانات «إرهابية» كإيران أو بعض «المجموعات المتطرفة» حسب أوراق بحثية غربية. وآخرها اتهام الصين بأنها تقوم باستخدام التقدم التكنولوجي والسيطرة على المعلومات من أجل إنشاء أكبر سجن اجتماعي في العالم يحتوي على حوالي مليار ونصف إنسان، أي: تعداد سكان الصين.
ففي برامج تلفزيونية «ثقافية ساخرة» اتُهِمَت الصين «الملحدة» بأنها تنتج «إلهاً» أرضياً، وذلك رداً على قيام الصين منذ مدة بإنشاء ما سمي بنظام الرصيد الاجتماعي. هذا النظام هو نوع من التقييم الاجتماعي للفرد من خلال تتبع سلوكه على الشبكة، كأنواع مشترياته أو المواقع التي يتصفحها، وما يقوم ببثه على حساباته في مواقع التواصل الاجتماعي، وخصوصاً مراقبة عدد ساعات اللعب على الشبكة، كمنتديات الألعاب الجماعية. ومن جهة أخرى من خلال نظام رقابة الكاميرات المركزي في الصين، إذا ما انخرط الفرد في ممارسات عدوانية معينة، أو تجاوز القوانين اليومية كالسير أو غيرها. وعلى أساس «قل لي من تعاشر أقل لك من أنت»، فإن رصيد الفرد قد يتأثر أيضاً بسلوكيات من هم مرتبطون به إلكترونياً، وهذا ما قد يدفعه ليس إلى تغيير سلوكه فقط بل إلى سلوك المحيطين به.
وتكون نتيجة التقييم، رفع أو تخفيض الرصيد الاجتماعي للفرد، الذي قد يؤثر على إمكانية سفره داخل وخارج البلاد، أو حصوله على جواز سفر حتى، أو تسهيل إجراء معاملاته الرسمية أو التوظيف وغيرها.
ضد الانضباط، داعمو الفوضى
على الرغم من أنّ قضية تعزيز الانضباط أعمق مما يطرحه هذا النظام، في كونه علاجاً للنتيجة وليس علاج أسباب هذه المظاهر السلوكية، أي أن «المنع» السلبي المستخدم هو أقل فعالية من القناعة الإيجابية المطلوبة، والتي هي أساس الممارسة التقدمية، ولكن أزعج الليبراليين هذا النظام من التقييم الاجتماعي، كونه يمثل شكلاً من التربية الاجتماعية ورفع الانضباط السلوكي، فهم من دعاة الفوضى الاجتماعية والعشوائية وهدر الوقت والعدوانية الفردية، و«المتعة السطحية». فالانضباط الجماعي بالنسبة لهم قمعٌ شمولي، أما دفع البشرية نحو الهلاك فهو «حرية» دون قيود. وهو مدخل سهل لشيطنة الصين. وبالرغم من التناقضات في الصين، إن أكثر ما يغيظهم هو أنها في تمتينها للرقابة الوطنية على المعلومات والشبكة وحركتها فهي تغلق أكثر وتسيطر على أكبر سوق وطنية في العالم، بينما هم يريدونها مشرعة لهم، ، كما دولنا التابعة التي شبعت «حرية فردية» للسوق، في غياب أية سياسة تخطيطية للدولة، فهم ضد التخطيط أيضاً، والاشتراكية. أليسوا هم ذاتهم أصحاب شعار «كل الأفراد في الاشتراكية سيكونون نسخة عن بعضهمَ»؟!!
على العكس، التكنولوجيا الحديثة تؤمن في المقابل أرضية أوسع من الديمقراطية والعدالة والتخطيط الاجتماعي، إذا ما كانت في يد القوى الشعبية ونظامها.