المعلّم «الكافر!»
في مرحلة الدراسة الابتدائية أواخر ستينيات القرن المنصرم، كان لدينا معلّم صفّ يُشاع عنه في أوساط المدرسة بأنه «ملحد، كافر، لا يفرّق بين أمه وأخته وعشيقته.. والعياذ بالله! لكنه– للأمانة- مِعطاءٌ نزيهٌ مثقفٌ وصارمٌ بشدّة». لم يكن أنيق الهندام كباقي المعلّمين، فهذه الأمور من آخر اهتماماته. لكنه غزير العناية بمتابعة آخر ما تصدره الدوريات الثقافية. ونادراً ما يُرى خاليَ اليدين من كتابٍ أو مجلةٍ أو جريدة. ولعلّ أهمّ صفة لديه أنه يمتلك موهبة التحدّث ببراعة. أراد في مطلع العام الدراسي أن يُجري استبياناً لطلاب شعبتنا لِسَبْرِ واقعنا الطبقي من خلال توجيه سؤال: «ماذا تناولتم البارحة من مأكولات؟» على أن تكون إجاباتنا خطّية.
في تلك المرحلة كان غالبية- إن لم يكن جميع- الطلاب، ينتمون إلى الطبقة الفقيرة المسحوقة في المجتمع. يتبدّى ذلك من لباسنا وهُزال أجسامنا. فقد كانت العائلة لا يقلّ عدد أفرادها عن سبعة كحدّ أدنى، يُعيلها ربُّ أسرة بالكاد دخله يسدُّ رمقَ الأفواه الجائعة دوماً.
وبدأنا بتسطير الإجابة عن سؤال المعلّم. وحيث إن الرقابة منتفية في ظروفٍ كهذه؛ فهي ليست مذاكرة أو فحص.. وبالتالي يستطيع أيّ طالب أن يتطلّع بورقة زميله ويقرأ إجابته، ويتشاور معه دون أن يثير أية ردود أفعال زاجرة من قبل المعلّم. فقد انهمكوا بتبادل الوشْوشات ومدِّ الأعناق والضحكات المكتومة وكتابة ما يحلو لهم من إجابات.
ولمّا كنت من الطلاب المتفوقين، لم أكن مضطرّاً للالتفات إلى زملائي بالمذاكرات لأستعين بهم، بل على العكس من ذلك، كان زملائي يتودّدون لي ويتملّقونني حتى أساعدهم في أوقات الشدّة. فقد كتبتُ إجابتي دون أن ألتفت إلى أحد: «تناولتُ صباح البارحة مع أفراد أسرتي الزيتون مع الخبز والشاي، وعند الغداء مجدّرة برغل إلى جانب سلطة خسّ، وعند العشاء لفّت والدتي لكلِّ فردٍ من أسرتنا سندويشة زعتر».
وإذ بزميلي الجالس إلى جانبي والذي اعتاد تاريخياً أن ينقل من ورقتي في المذاكرات والامتحانات، ينظر صَوبي ساخطاً مستنكراً ويهمس من بين أسنانه:
كيف تجيب عن السؤال بهذه الإجابة؟! ألا تستحي من نفسك؟ انظر ماذا أجبت أنا!
وكان كغيره من الطلاب قد كتب أنه تناول مع أفراد أسرته ما لذَّ وما طاب. فقد أجاب معظم الطلاب عن السؤال بما يتمنّونه ويشتهونه من مأكولاتٍ محرومين منها أباً عن جدّ بسبب الفقر المدقع الذي يتخبّطون فيه. فكانت الأجوبة على الوجه الآتي: «حليب بالعسل، لحمة بعجين، كباب، دجاج محشي، كفتة بالصينية..».
قلت له مقتنعاً:
لن أغيّر ما كتبت، هذه هي الحقيقة ولن أخجل منها..
وما إن جمع المعلّم أوراق الإجابة وبدأ يتفحّصها، حتى قُرِع الجرسُ إيذاناً بانتهاء الحصّة الدرسيّة، وخرج الطلاب إلى الباحة وشَرَعَ كل طالب يسأل زميله بماذا أجاب؟ وسط ضحكات وقفشات هذا وذاك..
وفي بداية الحصّة الدرسيّة التالية، وقف المعلّم ينظر إلينا فرداً فرداً وقد غشيَ الصمت أرجاء الصفّ، واستقرّت عيناه صوبي بنظرةٍ تشي بالتعاطف والمحبّة، فاحترق وجهي من الخجل. ثم تصفّح المكان بنظرة دائرية، وقال بعجلةٍ وضيق، وعضلات وجهه تموج بسحبٍ حمراء:
«هل يعقل أن عدد الإجابات الصادقة اثنتان فقط من أصل أربعٍ وثلاثين إجابة؟! لماذا تخدعون أنفسكم وتخجلون من واقعكم الذي لم يكن لكم ذنبٌ في وجوده؟ طبعاً أقدّر العزّة والكرامة التي احتلّت مكانة أساسية في إجاباتكم. لكنكم تتستّرون بها خشية افتضاح بؤسكم. وأكرّر للمرة الأخيرة: إنه ليس من صنْعكم. إنّ هروبكم وتزييفكم للحقائق وتنكّركم لواقعكم المزري، لن يقودكم إلى الخلاص ولن يحلَّ مأزقكم». ثم تفكّر قليلاً وأضاف بإشفاقٍ وتسامح: «سأعتبر إجاباتكم هذه وكأنها لم تكن، وسأقتطع من هذه الحِصّة خمسَ دقائق لتعيدوا كتابة أجوبتكم، وأتمنّى منكم جميعاً توخّي الدقّة والمصداقية فيها بعيداً عن التماهي بالظالمين». وختم حديثه بكبرياءٍ غاضبة: «يا أبنائي، ما نحن فيه لن يدوم، نحن شمسُ العالم القادمة، وهم الظلمةُ الراهنة».
وطفق بتمزيق أوراق الإجابة بهدوء.
وقد أحدثت خطبة المعلّم رجّة فظيعة في صفوفنا، وبدّدت كل مشاعر النقص والدّونيّة التي لصقت بنا. وانكبَّ الطلاب يكتبون وقد اجتاحهم تيار متوثّب من اللهفة والحماس والمرح. وكانت أجوبتهم، وهذه المرة دون أن ينقلوا عن بعضهم: «تناولنا شوربة عدس، سلق، هندباء، فلافل، كشك، برغل..».