الرموز التاريخية للشعوب
سلاف محمد صالح سلاف محمد صالح

الرموز التاريخية للشعوب

في تناقضٍ مع الشعوبية التي ينتهجها إعلامنا، التي تفترض التعصب، والذي يفترض بدوره إحياء عصبية للشخصيات التاريخية، تتعرض الرموز التاريخية في منطقتنا إلى هجوم ممنهج بقصد تشويه تاريخ شعوب المنطقة والقطع معه، بما يسهل السيطرة ثقافياً ومعرفياً عليها، وبالتالي ضبط إيقاع السيطرة السياسية.

وليس غريباً ملاحظة أن الإعلام المحلي الذي يُحرّم الخوض في قضايا وشخصيات اجتماعية مصيرية بمنهجية علمية، يعرض بعشوائية منظَّمة: الهجوم على رموز الشعب الجامعة، وهو في ذلك يتناغم مع الإعلام الخارجي؛ إذ تتلاقى الطبقات المهيمنة في مجتمعاتنا في أهدافها مع أهداف القوى الخارجية، فيما بات معروفاً أن عملية التحرر الوطني تتطلب تحرراً اجتماعياً يستند إلى ثقافة وطنية تجمعها رموزها الوطنية الجامعة بثبات يُسهّل ويُسرّع في التحرر ببعديه الاجتماعي والوطني.
الرموز التاريخية للمجتمعات وليس للسلطات
يبدو أن أسهل أسلوب في الهجوم على الشخصيات التاريخية هو انتزاع الأخيرة من ظروفها السياسية وصلاتها الاجتماعية وظرفها التاريخي المحيط، في محاولةٍ منها للخروج من الأنماط التقليدية للنقد، والبحث عما تُسميه نهجاً موضوعياً للدراسة، لكنه يثبت دوماً أنه نهجٌ يعوزه التحليل العلمي. لتظهر هذه الرموز أخيراً معزولةً ومنعزلةً عن مجتمعاتها. غير أن تجارب هذه الشخصيات بالذات سياسيةً كانت أم فلسفيةً أم أدبيةً، انبثقت من ظرفها الزماني والمكاني المحددين تاريخياً، بل إنها التزمت قضايا خارجةً عن الشعور بالأنا. وإن بدا بعضها دينياً أو أدبياً لكن جوهرها ظل اجتماعياً، وفي أحيان كثيرة سياسياً، كصلاح الدين الأيوبي الذي واجه جيوش الإفرنج ذات الطابع الديني (الصليبي) في الشام، في الوقت الذي سقطت فيه مصر بأيديهم، وكان لدخوله مصر فِعلاً توحيدياً بين الشام ومصر(يكاد يكون الوحيد في عصور الانحطاط ـ هادي العلوي). ويكمن أهم ما في شخصية صلاح الدين الأيوبي: أن فِعله ليس ذاتياً فردياً، وإنما تجسيد للقوة الكامنة في شعوب المنطقة في حينه، وإرادتهم في مواجهة الغزو الخارجي.
وفي تجنبٍ مقصود في مقالنا لعرض شخصيات وقصصٍ مؤثرة في تاريخ منطقتنا، كالمعلم الثالث ابن سينا، وإضافاته في الطب والفلسفة واللغة العربية ذاتها بمفردات أصبحت ملكَها، وجابر بن حيان وموقفه من الوجود الموضوعي للكون ووحدة حركته، ومقامات بديع الزمان الهمذاني كظاهرة اجتماعية فنية بطلها الشحاذ أبو الفتح الإسكندري، وإخوان الصفا ورسائلهم في الشهادة، والمتنبي الذي كان أحد اسباب تعلقه بسيف الدولة الحمداني أن الأخير كان مقاتلاً لجيوش الروم في شمال بلاد الشام في حينه، بل إن المتنبي قاتل معه، وابن حزمٍ في أدب الحب وطوق الحمامة، وبخلاء الجاحظ الأثرياء، والنزعة الزهدية كشكلٍ من أشكال الاحتجاج السلبي على الصراع السياسي المحتدم في العصور الإسلامية الأولى، وكنواةٍ ستنتج عنها حركة التصوف ببعدها الفلسفي المعقد إيديولوجياً والمنخرط في المجتمع والسياسة.. وغيرهم كثيرون، والذين تم انتقاؤهم هنا لضرورة إعادة علاقة المفكرين والحركات الاجتماعية إلى مكانها الصحيح ضمن ظروف تتصل بالوعي والواقع الاجتماعي، وهي علاقة هؤلاء المفكرين مع مجتمعاتهم، وليس حكامهم.
الأمثال الشعبية دفاعاً
عن تجارب الشعوب
إننا سنستعير من الشهيد حسين مروة ثلاث إضاءات على شخصيات مبتدعَة اقترنت بها الرذائل، تُبرز أن شعوب المنطقة منذ القدم قادرة على الدفاع عن نفسها بابتداع أمثالِها التي تنكر الخيانة والنكث الوعد والظلم:
أبو رغال: هو رجل في اليمن خان قومه بوشايته بهم. ومضت الأيام، ومضى معها القوم والأعداء، وظل أبو رغال ملعوناً مصلوباً كأقدم خائن ربما على خشبة التاريخ، وتشير قصته إلى أن شعوب المنطقة نبذت الخيانة في عُرفها ولعنت الخائنين إلى الأبد.
عرقوب: الذي وعد أخاه مرةً في الحجاز بتمر من نخلة قرب يثرب، فنكث بوعده سنتين اثنتين، لكن الناس لم يمهلوه سنةً ثالثة، بل عاقبوه وصلبوه كذلك على خشبة التاريخ كعرقوب الذي (يَعدُ أخاه بيثرب)! وصار مَثلاً لإشارة إلى من ينكث عهوده كصفةٍ ليست من صفات الشعوب المحمودة.
سنمار: الذي بَرع في البناء والزخرفة في الحيرة وسط العراق. وكان أن بطش الملك به بعد أن أنهى بناء قصر رائع، حتى لا يبني مثله لسواه، فرماه من أعلى قصره. فأنكر الناس أن يُجازى سنمار بالسوء والطغيان. وإذ صلبوا الملك الظالم على خشبة التاريخ، فإنهم أدَّوا للبنَّاء المظلوم حقه بتخليد اسمه.
ولو أن للخيانة والنكث بالوعد والظلم معانيَ غير بغيضة لدى شعوبنا، لما خرجت علينا بالأمثال والحكايا والقصص الجميلة هذه.
الشعوب تدافع عن رموزها الاجتماعية، على سبيل المثال:
تغنّت جماهير المظلومين بأهاجي يزيد بن مفرغ الحميري الموجعة لبني زياد أثناء إمارة عبيد الله بن زياد على البصرة، وإمارة أخيه على سيجستان في عهد يزيد بن معاوية، وكانت أهاجيه ذات طابعٍ سياسي اجتماعي.
كان يكتب أشعاره على حيطان الخانات في طريق هربه من سيجستان إلى البصرة، وكانت هذه الأشعار تصل إلى البصريين قبل أن يصل ابن مفرغ إلى البصرة، ويتناقلونها سراً بينهم للتنفيس بها عن مخزون الحقد والمعاناة من جور الحاكمين الظالمين.
وحين وقع الشاعر في قبضة بني زياد، أُرغِم على محو أشعاره بأظافره عن حيطان المحطات طوال الطريق من سيجستان إلى البصرة حتى حفيت أظافره، وسالت الدماء من أصابعه.
وفي البصرة اشتد التنكيل به وتعذيبه، ولم ينقذه من جحيم العذاب والسجن سوى تعاظم الاستنكار والاحتجاج من قبائل اليمن وقريش والوفود التي توالت على يزيد في الشام تنذره أن يطلق سراح الشاعر من السجن، وهذا ما حصل.
من شعره المندِّد بالجائر عبيد الله بن زياد مستعرضاً جرائم حكمه، عندما ثار العراقيون بقيادة عبد الله بن الزبير عليه:
بما قدمت كفاك، لا لك مهرب
إلى اي قوم، والدماء تصيب
فكم من كريم قد جررتَ جريرة
عليه، فمقبور، وعان يعذب
ومن حرة زهراء قامت بسحرة
لتبكي قتيلاً، أو فتى يتأوب
فصبراً، عبيد بن العبيد، فإنما
يقاسي الأمور المستعدّ المجرب
وذق كالذي ذاق منك معاشر
لعبت بهم، إذ أنت بالناس تلعب.
في الثقافة الطليعية
لا يتوقف معيار الحديث أو القديم في الثقافة على إحلال شخصيات ورموز جديدة- إن وُجِدَت- بالهجوم على قوالب وشخصيات تاريخية. إنما يتوقف المعيار الذي يحدد ماهية الثقافة في علاقتها مع الواقع الاجتماعي، سواء في حالة نهوضه أم نكوصه. وليست المسألة قضية ضرورة البحث في شخصيات تراثنا التاريخية بقدر ما هي قضية الموقف من التراث برمَّته وعلاقته الأصيلة بالحاضر- حتى في مرور هذه العلاقة بحالات انقطاع قصيرة نسبياً-، والبناء على العناصر الحية في تراثنا وتلاقيها مع القوى الحية في حاضرنا بشكلٍ يكشف للشعب ظروفه المحيطة ويثيره لتغيير واقعه المتردِّي، أو بالعكس. وهنا بالضبط يكمن جوهر توصيفنا لمثقف- إن صح وصفه بالمثقف- أنه طليعي تقدمي أو رجعي.
يقول الفيلسوف الهنغاري الشهير جورج لوكاش عن الثقافة في معرض حديثه عن (غوركي): »إنها- أي: الثقافة- قبل كل شيء إدراكٌ للعظمة الإنسانية، والقدرةُ على رؤية هذه العظمة أينما تظهر في الحياة، حتى إن كانت مستترةً ناقصةَ الشكل، لم يكتمل بعد تعبيرُها الواضح. إنها القدرة على تكشّف نمو الإنسانية وممارسة تجربتها بتفهم داخلي، وإنها القدرة على استشفاف كل جديد في أولى مظاهره، وكل ما يحمل بذور المستقبل».