الرأسمالية تعادي الحب والانسان
تصدت المنظومة الفكرية الرأسمالية للأمراض الناتجة عن المجتمع البورجوازي وعلاقاته إما بالتمويه أو القمع وإما بطرق «علاجية» ترتكز نفسها على ذات الأرضية البوجوازية ولا تنفصل عنها، حيث في جوهر الطرق العلاجية يكمن المنطق الإصلاحي نفسه.
الفكر الإصلاحي حاضر في برامج ومناهج الأحزاب والقوى الاجتماعية التي تنعكس في شكلها الاقتصادوي أو النقابي مثلاً، كما هو أيضاً حاضر في الميدان الصحي النفسي والجسدي والعلاقات الاجتماعية والأسرية على السواء.
الحل الإصلاحي
لتشوهات «الحياة الشخصية»
انتعاش التيار الإصلاحي الاجتماعي في المدارس العلاجية النفسية والاجتماعية وتطوره جاء على أساس تعاظم التشوهات في الحياة النفسية والاجتماعية، وخصوصاً بعد الانتقال إلى الليبرالية في العلاقات والثقافة الاجتماعية، أو ما يسمى بمجتمع الاستهلاك. حيث حصلت طفرة في المجتمعات الغربية، ولاحقاً في الدول التابعة، إن كان في كم العيادات النفسية أو ما يسمى بالمرشدين الاجتماعيين والخبراء بشؤون الأسرة أو الزواج وغيره. ترافق ذلك مع تعاظم المنشورات من كُتبٍ ومجلات ومواقع إلكترونية تطال الجوانب الشخصية من حياة الفرد، وفي معظمها تتوجه إلى أبرز قضية والتي تكاد تكون مركزية أي: الحب، والعلاقة المشتركة الناتجة عنه أي الزواج. ويكمن جوهر هذه التيارات بتعليم وتقديم مشورة حول كيفية إدارة الحياة الشخصية والأسرية حتى يكون الحب أو الشراكة الاجتماعية ناجحة، خصوصاً في ظل النسب المرتفعة لمعدلات الطلاق أو عدم الزواج أو عدم قيام أو تعطّل أو تعثر العلاقات العاطفية. وطبعاً كل المشورات لا تتطرق إلى التغريب الفردي والاجتماعي والتفكك والعزلة وتفريغ الإنسان من مضمونه كفاعلٍ ومنتجٍ في ظل الرأسمالية.
هذا الجانب على قدر من الأهمية ليس فقط من أجل كشف نفاق وزيف التباكي الكاذب وكمية الدجل «العلمي والثقافي» في الفضاء الليبرالي عالمياً، بل هو ضرورة من أجل الإطلالة على جانبٍ حاضرٍ وبقوةٍ في المعاناة الاجتماعية، والذي لا يمكن حله بالمقولات العامة حول رفض التماسك الاجتماعي، بل حله فقط في تغيير جذري في بنية العلاقات الاجتماعية على أساس التنظيم الاقتصادي النقيض للرأسمالية، وما تنتجه من تغريب.
الذات والحب في زمن الليبرالية
كانت القضايا العاطفية موضع اهتمام مُبكر لدى تجارب خَبِرت هذه التناقضات باكراً، بشكل خاص في الاتحاد السوفييتي أو في الغرب، ولكن لم تتحول إلى مسائل سياسية مباشرة تطالها البرامج والسياسات الاجتماعية والثقافية بشكل بارز. وبشكل مكثف، إن الذات الفردية وفي سعيها للتحقق فإنها تطلب الاعتراف بها على حد تعبير هيغل. هذا الاعتراف الذي يحصل وفق إحداثيات المجتمع الرأسمالي من خلال معاييره إما التي تركز على المظهر الخارجي الفردي، أو النجاح الاجتماعي المرتبط بالثروة والمال، أو حتى النجاح الفردي وحلمه الليبرالي من خلال المهن «المؤثرة». والتي لا تخرج عن منطق الحاجة للتملك من أجل تثبيت الاعتراف، خصوصاً إذا اعتبرنا أن الليبرالية تقدم الفرد على أنه وجود متميّز بحد ذاته، بمعزل عن دوره وإنتاجه الإنساني (إلا ما هو مرتبط بمنظومة القيم الرأسمالية)، ما دفع ثيودور رايك الباحث النفسي النمساوي لكي يعلن في أحد كتبه «لو كان الحب حباًّ» في إشارة إلى تحول الحب إلى علاقة تملك تعوض فقدان التميز الاجتماعي فتصير العلاقات العاطفية تعويضاً وبديلاً ليحس الفرد بوجوده المتميز. هكذا تتأسس شروط الاعتراف عامة حسب منطق الليبرالية، ولا تخرج العلاقات العاطفية والحب ومن ثم الزواج عنها.
بين الواقع والمثال
إذا عدنا إلى حساب البيدر الواقعي، فإن الإنسان المهمش سياسياً ودوره الاجتماعي محصور بعجلة الربح الرأسمالية وتأثيره الاجتماعي معدوم فهو خارج الاعتراف بالضرورة. مضافاً إلى ذلك تزايد الفروقات الفردية على أساس التعقد الكبير للواقع وللاهتمامات والسمات الفردية، وهو ما يعني ارتفاع حجم الانتقائية، التي تصطدم بكابح العزلة وضيق الحلقة الفردية المحصورة بـ «عمل- منزل» غالباً. أليست مؤسسات «التعارف» مثلاً في الغرب وقليلاً في البلاد التابعة هي إيجاد مخرج لهذا التناقض؟َ! والتي تلعب دور «الخَطّابة» في شكلها الحديث. والشكل الروتيني الفاقد لحياة منتجة على المستوى الفردي يصير هو أيضاً طابع العلاقات المشتركة. وطبيعي أن يفقد الناس الاهتمام المتبادل أو حتى لا يجدوا هذا الاهتمام أساساً تجاه بعضهم. وطبيعي أن تنهار العلاقات والزواج فالرابط بين الأفراد شكلي ومسلوب من أي مضمون يشد الناس إلى بعضهم البعض. بل ما يبقى هو قيم الاستهلاك والمشاكل اليومية التي تضيف إلى هذا الانقطاع الموضوعي تفككاً.
بين التفكيك والتجميع
إن التفكك والانقطاع والتباعد ليس مطلقاً ولا نهائياً، حتى ضمن النظام الرأسمالي نفسه، فوعي المعاناة التغريبية من جهة، ووضع حلها على جدول الأعمال الفردي ومن ثم الجماعي، يُحوّل منطق التفكك إلى منطق تقارب وتجميع. فعندما يصير دور الفرد مرتبطاً بفعاليته وبهمّه وهموم الآخرين، يكسب اعترافاً اجتماعياً بالضرورة، وبالتالي حتى العلاقات الفردية الشخصية التي قد تنشأ في هذا السياق تكتسب مضموناً حقيقياً، حباً كانت أو صداقة أو غيره. وهذا لا يعني أن هناك وصفة فردية أو خارج منطق الصراع نفسه وتردُّد وتقدُّم وتجذير الحركة السياسية نفسها. أي: ببساطة لا وجود لـ «قواعد الحب العشرين» كما تحمل عناوين الكتب الرائجة اليوم، بل هي عملية في جوهرها ترتبط بالضرورة بتعقد الصراع نفسه ومصائره. فالحب أيضاً وفي النهاية هو صراع ضد الرأسمالية